الصّنميّة الجديدة!
يظنّ الأكثرون، اليوم، أنّ البشريّة خرجت وتخرج، لا سيّما في القرنَين العشرين والحادي والعشرين، من الظّلمة إلى النّور، من التّخلّف إلى التقدّم، من التّقاليد البائدة إلى الحداثة المشعّة، من الجهل إلى المعرفة، من الأساطير والخرافات، إلى العِلم والتّاريخ، من البدائيّة في تعاطي البيئة، إلى التّكنولوجيا الحديثة، من طور العبادات الماورائيّة، إلى طور إعمال العقل...
هذا وَهم وكذب ما بعدهما وهمٌ وكذب! الحقيقة أنّ البشريّة تنطوي عليها الخدعة، خدعة الحداثة والعقلنة والعِلم والتّكنولوجيا، فتخرج عن عبادة الله، وبالتّخصيص عن الإيمان بالرّبّ يسوع المسيح، إلى عبادة المال، وبالتّخصيص إلى عالم الاستهلاك بلا حدود! هذا كلام بحاجة إلى توضيح؟ بكلّ تأكيد! لماذا قَصرُ الكلام على الإيمان بالرّبّ يسوع المسيح؟ لأنّ مركز ومنطلَق الوهم والكذب المُحدَثَين هو أوروبا الّتي كانت مسيحيّة لقرون، وكذا تفرّعاتها في العالم، لا سيّما بلاد العمّ سام! من أوروبا وأميركا، بخاصّة، انطلقت وتنطلق، بخطى حثيثة، حركة إفساد البشريّة في هذا الزّمن الأخير! الرّسول بولس، في رسالته الثّانية إلى أهل تسالونيكي، يتحدّث عمّا يسمِّيه، في الإصحاح الثّاني، 'الارتداد' واستعلان 'إنسان الخطيئة' الّذي يُظهر نفسه أنّه إله؛ وكذا عن 'سرّ الإثم' الّذي يعمل الآن، و'خديعة الإثم في الهالكين' الّذين لا يشاؤون أن يَقبلوا 'محبّة الحقّ'. 'لأجل ذلك يُرسل إليهم الله عمل الضّلال حتّى يصدِّقوا الكذب'! هذا كلّه يتحقّق، اليوم، على أوسع نطاق، منذ فجر المسيحيّة، ويتردّد صداه وتتكثّف مفاعيله في العالم أجمع! الهدف هو محو المسيح من النّفوس! أوروبا ليست، بعدُ، مسيحيّة! فقط فيها جزائر مسيحيّة هنا وثمّة! وهذه تتعرّض لألف ضغط وضغط لتَرتدّ أو لتَفسُد من الدّاخل وتفرغ من مضمونها الإلهيّ. ومسيحيّة أميركا، بالأكثر، تتعرّض لتشويه إيمانيّ كبير يتمثّل، بخاصّة، في دهرنة المسيحيّة وتحويلها إلى مسيحيّة نفسانيّة، إلاّ قلّة لا تزال تنهل من ينابيع التّراث القويم!
الخدعة، بعامّة، هي أنّ الأرض لمّا تعرفْ الاستهلاك بلا حدود إلاّ في هذا الزّمن الأخير. الإنسانُ يُحوَّل إلى كائن مستهلِك بامتياز! كلّ شيء يطغى عليه طابع الاستهلاك للاستهلاك، لا لقضاء الحاجة، بعد! لا بل الاستهلاك بات هو الحاجة المستجدّة! الفضائل المسيحيّة والقِيم الأخلاقيّة تتداعى بإزاء الجوع إلى الاستهلاك! محبّة المال، في الأفئدة، تقبض على كلّ شيء! نمط الاستهلاك يفرض طغيان محبّة المال! كلّ هذا الّذي تفاخر به البشريّة، اليوم، من عِلم وتكنولوجيا وعقلنة وتربية وثقافة وفنّ يطغى عليه، في العمق، إلاّ قليلاً، هنا وهناك، طابعُ الاستهلاك؛ ويقع، من ثمّ، تحت سيطرة أصحاب رؤوس الأموال! أصحاب رؤوس الأموال يتحكّمون، بعامّة، بالأدمغة والسّياسة والعلوم والتّكنولوجيا والفنون والسّياسة التّربويّة والحياة الاجتماعيّة... أكثر ما هو وسائل إعلام بين أيديهم. يغيِّرون الأنظمة السّياسيّة ويبتدعون الإيديولوجيّات. يسعون وينجحون، إلى حدّ ليس بقليل، في جعل الحكّام وكبار الموظّفين أدوات بين أيديهم! يصنعون الحروب! يستغلّون العالم في زمن السِّلم ويستغلّونه في زمن الحرب! العِلم عندهم، ككلّ شيء آخر، في خدمة المال! لا يبالون بما فيه خير البشريّة ولو شيّعوا ذلك كَذِبًا عبر وسائل الإعلام الّتي بين أيديهم! همّهم الرّبح والسّيطرة، ومن ثمّ استغلال النّاس! هذه، روحيًّا، ألوهيّة الخطيئة! كلّ ما يساعد على إفساد النّاس، بإبعادهم عن الله، بضرب العائلة، بإلقائهم في جبّ الموبقات، بتشجيعهم على اللاّأخلاق كتعبير مزعوم عن الحرّيّة الفرديّة، بضرب النّاس بالنّاس، بخلق الأزمات، بجعل الأمراض النّفسيّة والجسديّة تتفاقم في حياتهم في كلّ ما يساعد على إيهان النّاس وشرذمتهم وإفسادهم، في هذا الاتّجاه، وأكثر، يصنعونه! يعملون على قطع الإنسان عن كلّ تراث! يحوّلونه، بكلّ بساطة، إلى حيوان مستهِلك بلا جذور وبلا ذاكرة! كلّ ذلك لأنّه يساعد في إخضاع النّاس واستعبادهم باسم الحرّيّة؛ واستعبادُ النّاس يساعد على استغلالهم؛ واستغلالهم يساعد على جني الأرباح الطّائلة منهم والتّسيّد عليهم! في محبّة المال، الكلّ يبدأ مشروع مال ويمرّ بسياسة المال وينتهي بتحصيل المال! هذه هي النّسخة العصريّة للعجل الذّهبيّ الّذي صنعه هارون قديمًا لعبادة إسرائيل! وهذا هو تمثال الذّهب الّذي أقامه نبوخذ نصّر لعبادة شعوب الأرض! النّاس يموتون؟ مَن تراه يبالي؟! ما دام تعاطي النّفوذ والذّهب يملأ خزائن أصحاب رؤوس الأموال، فكلّ شيء بخير!!! لا شيء أشهى!!!
مساكين هم الّذين يحسبون، اليوم، أنّ العِلم هو في خدمة الإنسان. هذا ربّما كان صحيحًا نظريًّا، أو في نطاقات محدودة جدًّا! العِلم، أو قل خرافة العِلم، هو، بعامّة، في خدمة أصحاب رؤوس الأموال! من هنا كون الإنسان في خدمة صنميّة العِلم، أي في خدمة المال المتأتّي عنه لأنّ ثمّة مَن ملأ الإنسانَ من وَهْمِ وهمِّ الاستهلاك كقيمة، لا بل كأهمّ قيمة، في هذا الزّمن الرّديء! هذه عبادتكِ يا إسرائيل!
دونك عيّنة من الإيهام العلميّ المستحدَث!
قلّة منّا لا تستعمل معجون أسنان من نوع أو آخر. أكثر المنتجات، في هذا المجال، تَستعمل مادّة الـ'فلورايد'. التّصوّر الّذي بُثّ في أذهاننا والتزمناه أنّ مادّة الـ'فلورايد' تبيِّض وتحفظ الأسنان من التّسوّس. وهي مادّة مفيدة للصّحّة بحيث يضيفونها، هنا وثمّة، إلى مياه الشّرب. في وجدان الأكثرين ما دام أنّ وسائل الإعلام تشجِّع على استعمال الـ'فلورايد'، وليس ما يَظهر في الإعلام ليشير إلى مضار الـ'فلورايد'؛ وما دام، مثلاً، أنّ العلماء الّذين عملوا في برنامج القنبلة الذّرّيّة يقولون إنّ استعماله، بكمّيّات محدودة، آمِن، فالنّاس يصدِّقون ويتبنّون! مَن كان ليخطر بباله أنّ الإعلام يكذب في هذا الشّأن لأنّه مأجور! أو أنّه يخفي المعلومات الصّحيحة حمايةً لإنتاج أصحاب رؤوس الأموال الّذين يُهيمنون على أكثر وسائل الإعلام، ولو على حساب صحّة النّاس؟! مَن كان ليخطر بباله أنّ الهيئة الأميركيّة للطّاقة الذّرّيّة حالت دون تبيان المخاطر النّاجمة عن استعمال الـ'فلورايد' صونًا لاعتبارات الأمن القوميّ؟! الأمن القوميّ هو الأهمّ، فيما صحّة النّاس أقلّ أهمّيّة!!! مَن وراء هذا التّضليل والتّعتيم؟ محبّة المال، وأصحاب رؤوس المال!!!
في المعلومات أنّ الـ'فلورايد'، أو 'فلورايد الصّوديوم' هو مادّة النّفايات المتبقيّة من صناعة الألومينيوم. شركة أميركيّة كبرى لصناعة الألومينيوم، تجتمع لديها كمّيّات هائلة من 'فلورايد الصّوديوم'. هذه، عبر شركة معروفة جدًّا، أَدخلت 'فلورايد الصّوديوم' في تركيب معجون الأسنان ونجحت في إنفاذ خرافة الـ'فلورايد' في الأذهان، رغم أنّه ولا دراسة علميّة واحدة جدّيّة أبانت منافعه، حتّى بات معظم مصنِّعي معجون الأسنان يستعملون مادة الـ'فلورايد' في إنتاجهم! لا السّلطات تدخّلت لأنّ دورها كان حماية أصحاب رؤوس الأموال لا المستهلِك(!)، ولا الإعلام فسح في المجال لقول غير الكلمة الّتي كان مسموحًا بها! لكنّ الحقيقة، في نهاية المطاف، تجد أقنية أخرى غير المعتاد لتَظهر للنّور!
سنة 1989، أَظهرت دراسة قام بها معهد الأبحاث 'Batelle'، في كولومبوس، أوهايو الأميركيّة، أنّ الـ'فلورايد' مادّة مساعدة على السّرطان. ورغم أنّ المعهد القوميّ للسّرطان في أميركا هو الّذي طلب إجراء الدّراسة إلاّ أنّ النّتائج أُقْفِلَ عليها!!!
في 50% من الحالات، 'فلورايد الصّوديوم' يتسبّب، فيما يبدو، في تدهور الحال الصّحّيّة للأسنان، ويزيد بنسبة 12% عدد الأطفال المصابين بما يُعرف بالـ'Down’s syndrom' الّذي يميل بالأطفال لأن يصيروا 'منغوليّين'؛ وكذا عدد المصابين بمرض الـ'Alzheimer' أو ما يشبه الخَرَف!
في كتاب 'وصفة للصّحّة'، صدر العام 1990، في فصل تحت عنوان 'سمّ الفلورايد'، ص 104 – 112، كشف البروفسور السّويديّ أولوف ليندال أنّ استعمال 1 ملغ من الـ'فلورايد' في ليتر ماء، كما هو حاصل، هنا وثمّة، مؤذٍ جدًّا للصّحّة! وكشف عن دراسة أُجريت في الولايات المتّحدة تثبت أنّ الـ'فلورايد' هو من أسباب سرطان العظم! كما أبان أنّ الـ'فلورايد' يضرب أنزيمات الجسم الّتي تسهّل التّفاعلات الكيماويّة فيه، وهذا يؤثّر في كامل عمليّة الاحتراق (****bolism)، ويبطئها، ممّا قد يُفضي إلى الموت. كذلك يؤثّر الـ'فلورايد' في المضامين الجينيّة للـDNA. ثمّ يؤكِّد، أخيرًا، أنّ هذا مثال لاحتيال الدّعاية العلميّة المزيّفة على العمل الطّبيّ الرّصين!
من جهة أخرى، يتبيّن، من هنا وهناك، أنّ الـ'فلورايد' مستعمل في الأدوية الزّراعيّة، ممّا يجعله يشقّ طريقه إلى جسد الإنسان من خلال الفاكهة والخضار! وهو مستعمل، أيضًا، في العديد من الأدوية. كذلك يضرّ الـ'فلورايد' بخلايا الدّماغ ويساعد على زيادة المواد الإشعاعيّة في الجسد ويحدّ من الذّكاء!
كثيرون بيننا لديهم إحساس بما أوردنا مثلاً في شأنه، ومع ذلك تستمرّ الكذبة وتغلب الخديعة! كأنّي بأكثر النّاس أدمنوا اللاّمبالاة والاكتفاء من المعارف الحقّ بقشرتها الخارجيّة!
الصّنميّة الجديدة المغلّفة بالمعارف والتّكنولوجيا الحديثة تردّنا إلى مامون، إله المال، في حلّة بشريّة ذات خِلابة إيهاميّة! عنوان هذه الصّنميّة الخداع وقتل النّفوس! بين حبّ المال وشغف الاستهلاك يُحوَّل الإنسان إلى مادّة استهلاكيّة يستهلكها أصحاب رؤوس المال بالاستعباد، ومن خلالهم من يتمظهر بالنّور، إبليس، الكذّاب والقتّال!
هذا المقال وُضِع للمساعدة في فضح العبوديّة الجديدة والحثّ على العودة إلى منابع الأصالة!
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما
بقلم: ألان فينكيلكروت
2013-09-29
المدرسة والتعليم... في عصر العالم الرقمي السائل والآني
المدرسة والتعليم... في عصر العالم الرقمي السائل والآني
بقلم: ألان فينكيلكروت
دعوت في 2007 ال....