محاضرة قُدّمت في صالة المطران إدلبي بكنيسة القديسة تيريزيا مساء 23 نيسان 2008
إنه لطبيعي ومستحسن أن يكون الإنسان منسجماً مع ذاته. خصوصاً أن انسجام الإنسان مع ذاته، سكن الإنسان لجسده له تأثيرات إيجابية على علاقاته مع الآخرين.
ولكن التركيز والانتباه الزائد على ألذات ، هذا النوع من التناغم مع ألذات يتطابق مع النزعة إلى الفردية، ولكن هذا لا يعني أن نتخلى عن هذا البحث عن ألذات إنما علينا أن نصغي إليها.
كما أننا نلاحظ بأن المجتمع الذي يلجأ، من خلال هذه الصور والتقنيات، لتمجيد الجسد، يسعى في نفس الوقت لنفي أو لإخفاء الجسد المتألم والجسد الذي يكبر وفي النهاية الموت. اليوم نخبئ الموت إلاَّ إذا كان مهيب.
يبقى أن نلفت الانتباه إلى أن وسائل الإعلام تنسى أو بالأحرى تتناسى أمراً مهماً للغاية: هذا الجسد الممجد، هذا الجسد المعروض من أجل الاستمتاع، هو أيضاً جسد متألم وعلينا أن نأخذ على عاتقنا الوجهين.
أعتقد أنه بسبب هذا التمجيد للجسد من قبل المجتمع، إنسان اليوم لم يعد مستعداً لقبول شيخوخة جسده الحتمية، وأن هذا الجسد قد يتغير ويصبح جسداً مجروحاً، مائتاً وأقل رغبة أو بالأحرى غير مرغوب نهائياً. وهذا الأمر يتم في الوقت الذي نسعى فيه لإطالة عمر الإنسان.
يبقى السؤال: كيف يمكن إقامة علاقة صحيحة مع جسدي وجسد الآخر؟ وما الذي يستطيع أن يؤسس أو يبني حقيقية هذه العلاقة؟ هذه الأسئلة تفترض سؤالاً سابقاً لها.
ما هو الجسد؟
* شيئاً من بين الأشياء: الجسد، ظاهرياً هو شيء من بين الأشياء، وككل شيء محدود، كامد أو كثيف، محدد؛ شيء من الممكن وصفه، تحليله جسدياً، كيميائياً، بيولوجياً. جسدي يفرض علي حدود معينة. هو قبل كل شيء ما يمنعني أن أكون في مكانين في آن معاً.
بالإضافة إلى أن جسدي يحدد ما هو في الداخل وما هو في الخارج وعلى الحدود هناك جلدي – هذا «الكيس من الجلد» إن صح التعبير يحتويني، يغلق عليَّ، يفصلني، يعزلني ولكن – في نفس الوقت هو إمكانيتي في الاتصال مع كل من هو ليس أنا، مع العالم ومع الآخرين. ومع الله. هذا التباين يكمن إذاً في كون جسدي هو ما يغلقني على ذاتي ويفصلني عن الآخرين، وفي نفس الوقت هو الوسيلة التي من خلالها أتصل معهم. باختصار جسدي هو مساحتي الاجتماعية (وجودي الاجتماعي) إن صح التعبير. والمختصين بأمراض الجلد يدركون تماماً العلاقة بين بعض أمراض الجلد والمشاكل المتعلقة بالعلاقة مع الآخرين.
محدود في المكان، علينا أن لا ننسى أن الجسد محدود في الزمن أيضاً، وبذلك يصبح تاريخ. يمكننا القول بأن تاريخنا الشخصي يوجد في جسدنا بقدر ما نعيش ونصنع هذا التاريخ. تجعداتنا التي تزداد مع الزمن هي إحدى العلامات الواضحة لهذا التاريخ. جسدي هو إذن حضوري في العالم, بمعنى آخر خارجاً عن جسدي ليس لي من وجود إنساني. إنه الوسيلة الرائعة لحضوري للعالم والتي دفعت صاحب المزمور إلى القول:' عجيبة أعمالك يا الله'.
فما هو الجسد إذن؟ إنه الوسيلة التي بها ومن خلالها يعيش الإنسان وجوداً شخصياً، ويمارس ويظهر حريته في علاقاته مع ذاته ومع الآخرين ومع العالم وأخيراً مع الله. إنه ما يجعل من الإنسان كائن ذو علاقة – وأعتقد أنه لا نستطيع أن نقول شيئاً أكثر جوهرياً من ذلك عن الإنسان.
فبجسده ومن خلال جسده يحب الإنسان، ويستمتع، ويتألم ويعمل، ويصلي. باختصار كل شيء يمر عبر الجسد.
شيء ليس كباقي الأشياء
ظاهرياً الجسد هو شيء من بين الأشياء، ومع ذلك ليس كباقي الأشياء، ولكنه واقع خاص ومميز. هذه الميزات تظهر أقله بطريقتين مختلفتين:
1- بالطريقة التي أتكلم فيها عن جسدي. لا أستطيع القول «أنني جسدي». لأنه من المؤكد بأنني أكثر من جسدي، حتى ولو أنني لا أوجد خارجاً عنه. كما أنني لا أستطيع القول «أنني أملك جسداً» لآن جسدي ليس خارجاً عني.
2- ما يميز الجسد الإنساني وما يجعله فريداً يظهر من خلال العلاقة مع الجسد الميت، وهذا في كل الحضارات الإنسانية بمختلف أشكالها. هنا يمكننا التوقف على ظاهرتين:
هناك كلمة تستعمل للتعبير عن الجسد الميت: الجثة.
بالمقابل الجسد الذي تحول إلى جثة أصبح موضوع للدفن.
هاتين الظاهرتين تبين لنا بأن الموضوع ليس فقط موضوع جسد، وأنه مع ذلك يمس واقع إنساني: لم يعد سوى غنيمة، كما أنه لم يعد مركز للعلاقات. لم يعد جسداً لأنه لم يعد حياً ومع ذلك يبقى واقع إنساني. ولكن ليس لأي كان: بالنسبة لم كانوا على علاقة معه، وأن هذه العلاقة كانت قوية وحميمة. بالنسبة لمن عرفوا هذا الميت، الغنيمة تلخص كل تاريخه، وكل الاختبارات التي عاشوها معه. إنها الأثر المؤقت.
من المعروف أن الإنسان هو الحيوان الذي يدفن موتاه. هذه المقولة المهمة على صعيد البحث التاريخي وخاصة مرحلة ما قبل التاريخ، لها أهمية قاطعة على الصعيد الأنتروبولوجي: الإنسان هو الحيوان الذي يتذكر من عاش معهم، ويتفاعل معهم كمن، بطريقة أو بأخرى، لا يزالون حاضرين معه.
فالطقس الشامل للدفن يقول لنا أمرين: مأساة الوجود الإنساني، والرجاء الخفي للأحياء. المأساة ، لأنه مهما كان هادئاً وخفيفاً وطبيعياً يبقى الموت قطع، نهاية مطلقة للكائن المحبوب. فالموت يدشن، مرحلة جديدة، مرحلة ما « لم يعد» تلك المرحلة التي بدورها تحدد مرحلة «ما قبل» ومرحلة «ما بعد». إنه الفشل بحد ذاته للوجود الإنساني، إنه فعلاً التعاسة الشاملة والتي لا يمكن مداواتها. ولهذا السبب، برأي، نراه وراء كل أنواع مخاوفنا. ولكن بالمقابل الاحترام الكبير للجثة من خلال مراسم الدفن يعبر عن رجاء يقول لنا بأن كل شيء لم ينتهي.
بحسب التقاليد الدينية يستسلم الأحياء للفكرة القائلة بأن المتوفي يحيا دائماً، حتى ولو كان وجوداً أدنى، هزيلاً، حياة ظل أو حياة شبح. بحسب بعض الثقافات أو الحضارات يقدم للميت طعاماً، أو نسعى بشتى الوسائل للحفاظ على الجسد من التلاشي لأكبر فترة زمنية ممكنة. هذه الطقوس تسمى بالتحنيط أو بالتصبير. ما نقوله هنا عن الجسد الميت محفور في عمق كل كائن بشري. هذا ما توضحه ردود فعل البشر حول اغتصاب القبور، أو في حال اكتشاف مقابر جماعية وهذا الأمر لا يعود إلى الماضي البعيد. فالرعب الذي يولده هذا الأمر، الاحترام العفوي للجسد الميت يجعلوننا نقول أنا هنا بعد شامل قد تم لمسه.
يمكننا أن نضيف إلى ذلك كل الصور التلفزيونية التي نشاهدها يومياً وخاصة عندما، بمناسبة وجود معارك أو حروب، يعرضون لنا بعض الجثث البريئة (ولكن ليس لكل الناس) والمتروكة على الأرصفة. إنسان أصبح مجرد شيء بسبب عنف إنسان آخر أو بسبب بعض الناس. ولكن بالحقيقة لم يصبح بالفعل مجرد شيء لأنه عادة إما يغطى الوجه أن يوضع الميت على بطنه. إنها صور سخيفة وغير محتملة في آن معاً. في كل الأحوال وبدون أي شك، هذا الجسد ليس شيئاً كباقي الأشياء، وعندما يصبح مجرد جثة هذا الأمر يظهر أكثر.
لقد قلت أن جسدي هو حضوري للعالم أو في العالم، والحضور ليس شيئاً إنه من المجال الروحي. إنه يمر من خلال الجسد، ولكن يمكنه أحياناً التخلي عنه أو تجاوزه. فعندما يكون المتحابان بعيدين عن بعضهما البعض يبقان متحابين، حتى ولو كان الحب يتطلب الحضور الكلي، أي جسد وروح.
لهذا السبب أعدل التعريف الذي أعطيته في البداية عن الجسد وأقول: جسدي هو الوسيلة التي من خلالها يعبر الإنسان عن ذاته في العالم، يصنع العالم ويتأثر ويتحول من قبل العالم.
الجسد كوسيلة للروح:
الآن سوف أتوقف على بعض الأماكن المميزة التي تبين على أن الجسد هو وسيلة للروح… وأعتقد أنه علينا أن نقول أكثر من ذلك: الجسد معطى لنا لكي يظهر الروح.
اليد: اليد هي نهاية عضو أمامي، ولكن لدى الإنسان وبسبب وضعية الوقوف، اليد حرة لأعمال متعددة..غير السير على الأربعة. حتى ولو أننا بدأنا جميعا من هنا.
القديس والمعلم توما الأكويني يقول لنا شيئاً مذهلاً: « ما يكِّون الإنسان هو الروح واليد». لا شك بأن اليد هي إحدى العلامات الهامة على الذكاء. فبواسطة اليد يسيطر ويتحكم الإنسان بالعالم: واللغة تعبر تماماً عن ذلك، عندما تتحدث عن وضع اليد أو الاستيلاء على كل شيء. أكثر تحديداً الإنسان هو صانع العالم من خلال الأدوات، التي يصنعها والتي تعتبر امتداد ليده.
يمكننا القول بأن اليد هي عملة للروح. فبفعل اليد كل إنتاج الإنسان من علم أو فن أو ثقافة هم امتداد لجسد الإنسان. دعوتنا هي: عملية إتمام الخلق تركت للإنسان لكي يجعل من عالم الطبيعة عالم حضاري، وهذا من خلال اليد، حيث يظهر الإنسان على أنه روح خلاق.
الوجه: كلمة وجه خاصة بالإنسان: الوجه هو الوجه الإنساني. علماء الأنثروبولوجيا يوضحون لنا بأن اليد هي التي سمحت لوجه الإنسان أن يظهر. ما هو خاص بالإنسان في وضعية الوقوف، هو أن اليد يمكنها أن تأخذ الطعام وأن الوجه محرر من أجل وظائف أخرى غير الأكل. التحدث عن الوجه، يعني التحدث عن شيء يتعلق بالإنسان: بشكل خاص الضحك وبالطبع الكلام.
الجنس: الجنس الإنساني هو، بالإضافة إلى نواحيه الأخرى، لغة الجسد التي تقول أكثر من الجسد. فالجسد المجنَّس معطى لنا لكي يستطيع الروح أن يعبر عن ذاته من خلاله. ولكن الجنس قد يكون المكان الذي فيه تظهر بشكل أوضح هشاشة وحدتنا الإنسانية: وحدة الجسد والروح. لأن الغريزة تعبر عن ذاتها من خلاله بشكل قوي جداً قد تخنق فيه الروح. لهذا السبب أنسنة الجنس هي عملية لا يمكن أن تنتهي إطلاقاً.
ولكن الجنس لا يمكن أن يُختصر على التناسل. يمكننا القول بأن كل علاقة إنسانية هي مُجنَّسة وليست جنسية، أي أنها مطبوعة بطابع الجنس الذي ينتمي إليه الإنسان: ذكري أو أنثوي. هذا يعني أن كل علاقة، كل رغباتنا، أياً كانت، مطبوعين بطابع الخبرة الجنسية التي عشناها في الطفولة. بالطبع عندما نتحدث عن العلاقة فهي تشمل بدون شك العلاقة مع الله، بصفتها وعلى قدر ما هي علاقة مع شخص معين. تصوراتنا عن الله، صلاتنا الأكثر شخصية كلها مطبوعة بالطريقة التي من خلالها نأخذ على عاتقنا حياتنا الجنسية.
وحدة الشخص الإنساني
ما يبدو من خلال هذه الأفكار التي تحدثنا عنها هو أننا واحد بدون انفصال جسد وروح.
علينا التركيز على هذه الفكرة، لأنه شئنا أم أبينا، يبقى فكرنا متأثر بالفكر اليوناني القديم: الإنسان كائن مزدوج وليس موحد (جسد فان وروح خالدة).
كل الفكر الغربي خاصة الذي أثر بنا بما فيه الكفاية والذي تأثر بدوره بالفكر اليوناني القديم، علمنا هذا 'الانفصال' بين الجسد والروح، مع شيء من عدم الثقة بالجسد، أو النظرة السلبية له، لكونه معتبر مصدر فوضى، أو ضعف، وبالفكر المسيحي مصدر للخطيئة. فالروح أو النفس عليها أن تخرج من الجسد، سجنها، وإلاّ تبقى سجينة لهذا الجسد الذي يقودها للظلمات.
بينما الفكر السامي، فكر الكتاب المقدس بعيد تماماً عن هذا المعتقد. في نظر الكتاب المقدس، الجسد ليس بعنصر خارجي يمكن للروح الاستعاضة عنه. فالجسد هو جزء أساسي وجوهري من كياننا الإنساني. والفيلسوف نيتشه يقول' لدي كلمتين أقولها لمن يفكر سلباً بالجسد. ليبدؤوا بالتخلي عنه…ثم ليأتوا ويتحدثون معي'.
إذا قارنا بين وحدتنا والكلام يمكننا القول بأن الجسد والروح مترابطين بعضهم ببعض على صعيد الوجود، كارتباط الصوت والمعنى على صعيد اللغة. فالروح لا يوجد أبداً بدون جسد والجسد بدون الروح يصبح جثة. كل ما هو متعلق بوجودنا الإنساني يعبر من خلال الجسد. كل شيء مرموز له من خلال الجسد. في أعمالنا الأكثر روحية الجسد حاضر ويفرض علينا متطلباته، حدوده، ولكنه يجعل هذه الأعمال ممكنة أيضاً. فليس الروح هو الذي يصلي، الإنسان بكليته هو الذي يصلي. والمفكر الفرنسي باسكال: « من أراد أن يكون ملاكاً كان غبياً» «Qui veut faire l'ange, fait la bête»
فوحدتنا إذن هي دائماً هشة، مشكوك بها، علينا دائماً أن نصنعها، ولكن لا يمكننا التخلي عن هذه المهمة. لأن المهمة، ومن خلال كل التعقيدات التي تمسنا، هي أن نجعل الروح يقود المسيرة. ما هو مصيري في الموضوع هو تحقيق ذاتنا، شخصيتنا، في النهاية تحقيق نمونا الصحيح. إنها مهمة أو عمل ولكنها أيضاً اختيار: إذا لم نعمل بصبر لكي يكون الروح فينا هو الذي يقودنا، نستسلم آنذاك لنزواتنا مع كل ما تحمله من فوضى: مستبقين قليلاً الموضوع يمكننا أن نذكر قول القديس أغوسطينوس :« إن لم تصبحوا روحانيين حتى في عمق أجسادكم، تصبحون جسديين في صميم روحكم» .
بعض الأفكار الكتابية
الجسد في العهد القديم: إنسان العهد القديم لا يعرف المعارضة بين الجسد والروح. والمزمور 84 يقول : «ما أحب مساكنك يارب القوات تشتاق وتذوب نفسي إلى ديار الرب». فالرغبة في رؤية الله في الجسد تجتاز مجمل الكتاب المقدس. بعض الأمثلة:
- أيوب يتحدث عن القيامة على أنها قيامة الإنسان بمجمله :« فاديَّ حيٌّ وسيقوم الأخير على التراب. وبعد أن يكون جلدي قد تمزَّق أعاين الله في جسدي» (أي 19، 26).
- موسى يطلب إلى الله : «أرني وجهك»
- وفيليب يقول ليسوع : «أرنا الآب ويسوع يجيبه بالكلمات عينها: من رآني فقد رأى الآب».
هذا يعني أنه بالنسبة لفيليب ولنا أيضاً ليس هناك وسيلة أخرى لرؤية الآب سوى رؤية يسوع نفسه. ولكن بالنسبة لنا يسوع اختفى، حجب عن عيوننا،عيون الجسد. ما من أحد يستطيع أن يلتقي به يوماً على إحدى مفارق الطرق. علينا إذن أن نجدد نظرتنا لكي نراه حيث يبدو أنه غير موجود، بينما يقول لنا بأنه حاضر فيها: في كل إنسان وبشكل خاص في الإنسان الضعيف، في الأكثر فقراً؛ أي في الجسد المتألم. حضور الله في الإنسان المريض يجعلنا نفكر في موت المفكر الفرنسي (Blaise Pascal) الذي، بسبب آرائه اللاهوتية رفضت المناولة له لدى اقترابه من الموت. فطلب أن يوضع بجانبه مريض فقير ويكون له نفس العلاج الذي يخضع به باسكال قائلاً :«بسبب عدم استطاعته المشاركة (الاتحاد) بجسد المسيح، فإنه على الأقل يتحد مع أحد أعضائه المتألم». في الحقيقة نلمس هنا المعنى المسيحي المرهف لمعنى الجسد المتألم، وما هو جسد المسيح السري.
- في تصوراتنا عن الإنسان نضع بسهولة كبيرة ردود الفعل والصلاة على الصعيد العقلي، بينما إنسان الكتاب المقدس يقول «بأن الله فاحص القلوب والكلى» (مز 7، 10).
دائماً في الكتاب المقدس، يُستعمل الجسد البشري يطرق مختلفة للتحدث عن الله. يتحدث لنا عن ذراع الله الذي يحقق المآثر، وعن صوته الذي ينادي ويعزي، وعن قلبه لكي يقول حبه، و حنانه واستطاعته على المغفرة.
الجسد في العهد الجديد : العهد الجديد يساعدنا على تجديد موقع الجسد الإنساني في الكتاب المقدس وكرامته.
أقول بداية أن احتقار أو ازدراء الجسد الذي كان موجوداً لدى المسيحيين أمر غريب جداً، بما أنه لا وجود لدين آخر يعطي للجسد الأهمية التي يعطيها الإيمان المسيحي، بما أنه لا يكتفي بالقول بأن جسدنا مخلوق من قبل الله، بل أن الله لم يتردد في أخذ جسدنا كما هو، بضعفه، وبمحدوديته، وبهشاشته، وبموته. أخذه لا ليتركه لنفسه (لنفس الإنسان) بل لكي يؤلهه. بهذا المعنى يقول لنا القديس إيريناوس أحد آباء الكنيسة: «المسيح هو الله الذي صار إنساناً لكي يصبح الإنسان إلهاً».
فالمسيح القائم من بين الأموات كشف كامل للإنسان. إنه يقول للإنسان دعوته. إنه يعلمنا من أين نأتي وإلى أين نذهب. وبشكل خاص يقول لنا ما هي دعوة أجسادنا: إلى ماذا هي مدعوة ؟
ظهورات القائم من بين الأموات : بداية أقول بأن هذه الروايات لها وضع خاص ومختلف عمًّا روي لنا عن يسوع التاريخي. فالقيامة ليست حدث تاريخي بالمعنى الحصري للكلمة، بما أن القائم من الموت، من خلال القيامة، لم يعد خاضع للتاريخ. وبالتالي من المفضل التحدث عن حدث خارج التاريخ.
ما هو تاريخي بالمعنى الدقيق للكلمة هو خبرة وشهادة الرسل: نساء ورجال عاشوا مع يسوع واعتبروه المسيح يشهدوا بأنهم رأوه بعد موته على الصليب. وقالوه بقوة وهم مستعدون للموت بدلاُ من أن ينكروا إيمانهم بيسوع الحي.
في روايات القيامة، معرفة يسوع القائم والاعتراف به على أنه هو ليس بالأمر البديهي، ولا المباشر. لماذا؟ لأنه يعني الانطلاق من اختبار حسي ملموس (النظر واللمس والسمع) والوصول إلى معرفة إيمانية؛ مما يتطلب مفهوماً جديداً لما قاله يسوع التاريخي، ولتصرفاته السابقة، ولتنبؤاته عن موته. هذه الناحية واضحة جداً في رواية تلميذي عمَّاوس.
قلت معرفة، لأن يسوع لا يظهر إلاَّ للرجال والنساء الذين عرفوه سابقاً. وهذا يساعدنا لكي نفهم أسباب الظهورات. بالإضافة إلى أن المعرفة في الكتاب المقدس لا تعني مطلقاً معرفة عقلية، إنما علاقة وخبرة حياتية : «فعرف الإنسان حواء امرأته فحملت وولدت قاين» (تك 4، 1) «كيف يكون لي هذا وأنا لا أعرف رجلاً» تجيب مريم الملاك جبرائيل.
وظيفة الظهورات : هناك شيء من الضرورة للظهورات، حتى ولو كان زمنها محدود جداً.
فالموضوع هو إمكانية استيعاب الأمر بأن المسيح حي ما وراء الموت، وأن القائم في يوم الفصح هو عينه المصلوب في يوم الجمعة العظيمة. فالظهورات تلعب دور الجسر، همزة الوصل، استمرارية الهوية، بين الموت والقيامة للإنسان نفسه: يسوع الناصري.
إذن لا بد ليسوع من أن يظهر ذاته، ويسمعونه، ويلمسونه، هو الذي فلت من سيطرة التاريخ والعالم، يظهر ذاته لرجال ونساء لا يزالون هم في التاريخ. من هنا يأتي هذا الأسلوب الغريب للظهورات كما يرويه لنا الإنجيل .
هذا الغموض في الهوية يقول لنا أمراً آخر: أن يظهر بمظهر أحد السكان، أم بمظهر البستاني، هذا يعني أننا مدعوون لمعرفته في كل إنسان. علينا أن نكتشفه في الآخرين وأن نكتشف الآخرين به.
الجسد الروحاني : فجسد القائم من الموت لا يخضع إذن لقيود المكان الزمان، فبامكاننا القول بأنه جسد له مواصفات الروح والذي، كالروح، يفلت منا. وبولس الرسول يتحدث عن الجسد الروحاني (soma pneumatikon). لغة صعبة، ولكن هذا أفضل تعبير عن الوحدة بين الروح والجسد. جسد حقق الوحدة المطلقة بين الجسد والروح وبالتالي يعيش كلية انطلاقاً من الروح. بهذا المعنى هو جسد روحاني. هذه الوحدة هي وحدة القائم من بين الأموات. ونحن مدعوون لتحقيقها في حياتنا.
فالتأكيد على أن المسيح حيُّ إلى الأبد، هذا يعني التأكيد على كرامة الجسد الإنساني بشكل مطلق، التأكيد على الاحترام الذي علينا أن نكنه لهذا الجسد. هذا يعني أن جسدنا، الذي هو، منذ الآن، بطريقة مخفية أو غير كاملة، هيكل الروح، هذا الجسد مدعو لكي يعيش كلية من هذا الروح.
هذا يعني أيضاً أن عبارة قيامة الأجساد غير كافية، لأن القيامة الموعودين بها هي قيامة شخصنا بكليته، جسد وروح.
علينا إذن القول أنه في القيامة, سيكون جسدنا مُتمماً، مُحققاً – وأنه سيكون بشكل كلي, ولو بطريقة لا يمكننا تصورها، وسيلة حضور – حضور لله وحضور لبعضنا البعض، من خلال علاقة لا تعرف الظل، علاقة واتحاد كامل. هذا يعني اتحاد متبادل الذي يعبر عنه القديس يوحنا من خلال علاقة يسوع مع أبيه: «الآب فيًّ وأنا في الآب».
خلاصة :
إذا سألنا الإنجيل نرى بأنه إذا تجسد الكلمة، إذا أخذ جسدنا البشري، فليس من أجل استعراض غنى الجسد الإنساني إنما لكي يلتقي بالإنسان، ولكي يُرى ويُسمَع ويُلمس من قبل الفقراء والصغار. الإنجيلي يوحنا يشدد: «ذاك الذي سمعناه ذاك الذي رأيناه بعينينا ذاك الذي تأملناه ولمسته أيدينا من كلمة الحياة لأن الحياة ظهرت فرأينا ونشهد وبشرناكم بتلك الحياة» (1 يو 1،1).
جسد يسوع يسمح لنا بأن نجيب على السؤال: جسد لمن ولماذا؟ بكل يقين جسد المسيح هو جسد من أجل الآخر، وسيلة حضور أخوي للبشر، جسد معرض، جسد مبذول، ليس فقط وسيلة حضور، إنما هو سر حضوره المقدم لنا.
بقلم: ألان فينكيلكروت
2013-09-29
المدرسة والتعليم... في عصر العالم الرقمي السائل والآني
المدرسة والتعليم... في عصر العالم الرقمي السائل والآني
بقلم: ألان فينكيلكروت
دعوت في 2007 ال....