حنين بن إسحاق (809 - 876 م).. الطبيب المسيحي الذي يتجاوز محنه..
حنين بن إسحاق (809 - 876 م).. الطبيب المسيحي الذي يتجاوز محنه..
هو طبيب من عرب الحيرة، ولد لأب صيدلاني، وكان نصرانيا نسطوري المذهب عاش معظم حياته ومات ببغداد –وهناك بعض الاختلاف بين المؤرخين على تاريخ وفاته – ولقد اشتهر بدقته الشديدة في ترجمته لكتب أبقراط وجالينوس، أتقن اللغات العربية والسريانية واليونانية والفارسية قراءة وكتابة وأدباً، وقاد مدرسة من أبرع المترجمين في العصر الذهبي للدولة العباسية من أمثال قرة بن ثابت وابن أخته حبيش الأعثم وابنه إسحاق وأصطفن بن باسيل ويحي بن هارون. ولقد سافر إلى اليونان والقسطنطينية والإسكندرية وإنطاكية والرها وجنديسابور ودمشق لتعلم اللغات ودراسة الطب وجمع المراجع من مخطوطات الطب بمختلف اللغات.
كانت أول محنه مع أستاذه يوحنا بن ماسويه ببغداد، والذي كان يحذر من أسئلة هذا الطالب المجد المجتهد، وفي إحدى الجلسات التعليمية هاجمه يوحنا وتهكم عليه طالباً منه أن ينسى الطب ويعمل بالتجارة كمعظم أهله من أهل الحيرة!!، وطلب منه ابن ماسويه ألا يحضر دروس الطب ببيته مرة أخرى!!، فخرج حنين باكياً وأصر أن يتفوق على أستاذه بل على كل جهابذة مدرسة جنديسابور، من أمثال بن ماسويه وأبناء بختيشوع والطيفوري، والذين كانوا يعتبرون أنفسهم أفضل الأطباء على وجه الأرض قاطبة في عصرهم، وشرع حنين في السفر إلى الإسكندرية لإتقان لغات الإغريق ودراسة الطب مع جمع ما يستطيعه من كتب الطب، ثم أتقن الفارسية ودرس ما كُتب باللغة الفارسية عن الطب، واستمر في البحث والتحصيل لعلوم الطب حوالي خمس سنوات مختفياً عن بغداد، ولقد ترجم في حياته حوالي 95 كتابا طبياً من اليونانية إلى السريانية وحوالي أربعين كتابا إلى العربية، فعلى نجمه بين معاصريه من الأطباء، ومن روعة وجمال أسلوبه ودقته في تراجمه، وبالذات عن أبقراط وجالينوس طلب أستاذه القديم يوحنا بن ماسويه وده، واعترف أمام الأطباء بفضل حنين بن إسحاق، واعتذر له عن طرده إياه من قبل بل طلب منه أن يلازمه في دروسه الطبية..
أما محنته الثانية فكانت في أيام الخليفة المتوكل على الله (232 - 247هـ) حين بلغ حنين قمة مجده كمترجم وكطبيب. لكنه خلال نفس الفترة نكب بمحن جرها سوء ظن المتوكل به -وذلك خوفاً من أن يكون مدسوساً عليه من إمبراطور الروم بالقسطنطينية- وكذلك حسد زملائه له من أمثال يوحنا بن ماسويه وابن بختيشوع والطيفوري. وأول هذه المحن ما رواه ابن أبي أصيبعة من أن المتوكل لما قويَ أمر حنين وانتشر ذكره بين الأطباء أمر بإحضاره. فلما حضر أجزل له العطاء, وكان الخليفة يسمع بعلمه ولا يأخذ بأي دواء يصفه حتى يشاور فيه غيره, وأحب امتحانه حتى يزول ما في نفسه عليه, ظنا منه أن ملك الروم قد يكون خطط لاغتياله مع ابن إسحاق, فاستدعاه المتوكل يوما وأمر بأن يُخلع عليه، وأحضر توقيعا فيه إقطاع يشتمل على خمسين ألف درهم، فشكر حنين هذا الفعل. ثم قال الخليفة: 'أريد أن تصف لي دواء يقتل عدواً نريد قتله سرا'. فقال حنين: 'يا أمير المؤمنين: إني لم أتعلم إلا الأدوية النافعة. وما علمت أن أمير المؤمنين يطلب مني غيرها. فإن أحب أن أمضي وأتعلم فعلت ذلك'.. فقال الخليفة: 'هذا شيء يطول'. ورغّبه وهدده فلم يزد حنين عما قاله. فأمر بحبسه في بعض القلاع ووكل به من يوصل إليه خبره وقتا بوقت ويوما بيوم. فمكث سنة في حبسه دأبه النقل والتفسير والتصنيف غير مكترث بما هو فيه: فلما كان بعد سنة أمر الخليفة بإحضاره وإحضار أموال يرغبه فيها. وأحضر سيفا ونطعا وسائر آلات العقوبات. فلما حضر قال له الخليفة: 'هذا شيء قد كان ولا بد أن تنفذ ما قلته لك، فإن أنت فعلت فزت بهذا المال وكان لك عندي أضعافه. وإن امتنعت قابلتك بشر مقابلة وقتلتك شر قتلة'.
فقال حنين: 'قد قلت لأمير المؤمنين أني لم أحسن إلا الشيء النافع ولم أتعلم غيره'. فقال الخليفة: 'فإنني أقتلك. 'فقال حنين: 'لي رب يأخذ بحقي غدا في الموقف الأعظم فان اختار أمير المؤمنين أن يظلم نفسه فليفعل'.. فتبسم الخليفة وقال له: 'يا حنين طب نفسا وثق بنا فهذا الفعل كان منا لامتحانك, لأنا حذرنا من كيد الملوك وإعجابنا بك. فأردنا الطمأنينة إليك والثقة بك لننتفع بعلمك'. فقبّل حنين الأرض وشكر له.
فقال الخليفة: 'يا حنين ما الذي منعك من الإجابة رغم ما رأيته من صدق عزيمتنا في الحالتين'.
فقال حنين: 'شيئان يا أمير المؤمنين'
فقال المتوكل: 'وما هما'
قال: 'الدين وصناعة الطب'
فقال الخليفة: وكيف؟!
قال حنين: 'الدين يأمرنا بفعل الخير والجميل مع أعدائنا فكيف أصحابنا وأصدقائنا, ويبعد ويحرم من لم يكن، كذلك فصناعة الطب تمنعنا من الإضرار ببني جنسنا؛ لأنها موضوعة لنفعهم ومقصورة على مصالحهم'. ومع هذا فقد جعل الله في رقاب الأطباء عهدا مؤكدا بإيمان مغلظة: 'ألا يعطوا دواء قتالا ولا ما يؤذي . فلم أر أن أخالف هذين الأمرين من الشريعتين ووطنت نفسي على القتل. فإن الله ما كان يضيع من بذل نفسه في طاعته. وعلى كل يثيبني'.
فقال الخليفة: 'إنهما لشريعتان جليلتان'.
وأمر بالخلع فخلعت عليه. وحمل المال بين يديه. وخرج من عنده وهو أحسن الناس حالا وجاها.
كانت هذه التجربة امتحانا قاسيا وسوف تعقبها محن أشد!.. فكلما ارتقى حنين في فكره وعلمه كلما زاد حساده والحاقدين عليه.
بقلم: ألان فينكيلكروت
2013-09-29
المدرسة والتعليم... في عصر العالم الرقمي السائل والآني
المدرسة والتعليم... في عصر العالم الرقمي السائل والآني
بقلم: ألان فينكيلكروت
دعوت في 2007 ال....