فن الموزاييك في سورية :
يعتبر فن الفسيفساء من أقدم فنون الزخرفة والتصوير الذي بدأ مع فجر التمدن البشري الذي شهدته بلاد الرافدين (أوروك) وسورية. دخل فن الموزاييك القصور ودور العبادة والحمامات والمنازل السومرية ثم بقية الحضارات التي طورت هذا الفن ليبلغ أوجه فيما أبدعه الفنان السوري في الجامع الأموي (لوحة الجنة).
في البداية اعتمدت صناعة الموزاييك على بساطة الألوان والأشكال واستعمالها على نطاق محدود باستعمال لون أو لونين او ثلاثة او أربعة ألوان (نرى ذلك على أرضية حمامات أفاميا)، فرصف عدد كبير من المكعبات الصغيرة الملونة من الأحجار والرخام والصدف والزجاج وأخيرا المطعمة برقائق الذهب. تطور هذا الفن بموضوعاته ليشمل المواضيع الهندسية فاستعمل التدرج في اللون والضوء ورسم الصور والمشاهد التمثيلية والمسرحية والتبدل في الحركة. هنا تحرر الفن الفسيفسائي من التعبير الجامد عبر تراكيب ذات حدة حركية فعالة وذات نشاط ديناميكي باستخدام شبكات من الدوائر المتماسكة والمتجاورة أو شبكات من المعينات المتقاطعة والمضلعات (اللوحة الهندسية في متحف المعرة). بعدها ظهرت عناصر التزيين النباتية والحيوانية لتتحول بعد ذلك إلى الميثولوجيا الإغريقية والرومانية والفارسية والشرقية (لوحة أسطورة الخلق والآلهة جي وأيون وبروميثيه من شهبا والمعروضة في متحف دمشق). مع الحضارة البيزنطية استعملت مختلف الرموز لتعميق الإيمان المسيحي والتقرب الأكثر من عظمة الخالق. واكتملت المواضيع مع الحضارة العربية الإسلامية التي اكتفت بالأشكال الهندسية والأنهار والقصور دون رسم الإنسان أو الحيوان...
وقد ظهرت عدة نماذج من فنون الفسيفساء في مختلف المواقع المكتشفة في إنطاكية وأفاميا (سقراط والحكماء الستة) وتدمر (لوحة آخيل) وشهبا (اله البحر وأفروديت...) والسويداء (تبرج فينوس) وبصرى ومريمامين (الموسيقيات في متحف حماه). أخيراً تمّ اكتشاف فسيفساء كنيسة التمانعة في ضواحي معرة النعمان وفسيفساء الكنيسة في طيبة الإمام.
فسيفساء طيبة الإمام :
بين عامي 1985 و 1987 اكتشفت مديرية آثار حماة هذا الموقع. أنجزت هذه اللوحة عام 442 م في عهد المطران دومينوس أسقف حماة وبمساعدة عدد من المحسنين إلى بيت الله من كهنة وعلمانيين ذكر منهم الأب ابيفانيوس وفالنته والكسندرا وتيودوسيوس وبارموتوس وكارتيرياثيا وعائلاتهم. سميت هذه الكنيسة على اسم الشهداء الأبرار وبلغت مساحتها حوالي 600 مترا مربعا ما عدا قسم قدس الأقداس الذي لم يبق منه اثر. وقد قام معهد الفرنسيسكان للآثار برئاسة الأب ميشيل بيشريللو الذي يعمل في الأردن بالدراسات الأولية وساهمت الحكومة الايطالية في تشييد المبنى المحيط باللوحة لحمايتها ولاستكمال أعمال الترميم لاحقا.
تعتقد الباحثة الأثرية جانين بالتي المتخصصة في أثارات أفاميا، أن اكتشاف لوحة طيبة الإمام كشفت عن حلقة مفقودة تمثلت في الانتقال من المواضيع الهندسية ثم النباتية والحيوانية في الربع الأول من القرن الخامس إلى موزاييك شارع الأعمدة في أفاميا.
أهم مواضيع اللوحة :
- تعتبر الكنيسة نموذجا لهندسة الكنائس السورية إذ يتوسطها 'البيما' حيث كانت تتلى صلوات الفرض ثم ينتقل الكاهن إلى قدس الأقداس لإقامة ذبيحة القداس.هذا يفرض وجود 'مارتيريوم' أو ذخائر القديسين ومتبرع أو أكثر. هذا النموذج يتكرر في كنيسة الصليب في الرصافة وكاتدرائية بصرى. تحتوي على 28 بناء كنسيا تزين الأرضية على شكل بازيلكات وعلى شكل صليب إلى جانب الأسطح والقباب والأبراج الشبيهة من الكنائس الموجودة حتى الآن. وأهمها بالطبع كنيسة القديس سمعان العمودي الرائعة والتي دار جدال حول تاريخ رسمها وتاريخ إنشائها : أنجزت كنيسة مار سمعان عام 491 بينما أنجزت هذه اللوحة عام 442. لحل هذا اللغز يعتقد المهندس ملاتيوس جغنون أن الكنيسة نفذت إما على مرحلتين وإما أن التلف أصاب أسفل اللوحة فأعيد رصفها بعد سنة 491.
- أغلب الظن أن كنيسة قلب لوزة بشكلها البازيلكي وبرجيها ظهرت على اللوحة كذلك كنيسة بابسقا بباحتها المحاطة بالأروقة. ليس هذا الفرش ألفسيفسائي وكتاباته واقعا فنيا وشاهدا على الذوق والإبداع الفني لعصر ما فحسب، بل هو إلى ذلك مصدر أصيل لا بديل عنه لمعرفة تاريخ الجماعة المسيحية الأولى لكنيسة حماة.
- رسمت كنيسة بيت لحم والقيامة بين الحمل الفصحي المنير لترمز تاريخ الخلاص الذي بدأ في بيت لحم واكتمل بالقيامة. أصبح الحمل المذبوح على مذبح الصليب خلاصا للمؤمنين. فالمؤمن ينال الجنة كما جاء في سفر الرؤية ويصبح خالدا كطائر الفينيق الذي يقوم من الموت كالمسيح المنتصر الذي وطئ الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور. وتظهر هنا أنهر الجنة الأربعة وهي دجلة والفرات وجيحون وفيشون وترمز إلى شمولية بشرى الخلاص على الكون.
- هنا يصبح المسيحي كالمسيح الحمل الوديع 'الحامل خطايا العالم'، وبمشاركته في الذبيحة يصبح خالدا كطير الفينيق الذي يعمر طويلا ثم يحرق نفسه لكي ينبعث مجددا وهو أكثر بهاء من هنا نرى خلف رأسه هالة الشمس المشرقة والمشعة التي تذكر بالتجديد والخلود. فالمؤمن المسيحي يموت مع المسيح ليحيا معه في الأبدية.
- هناك بعض النباتات: الكرمة التي كانت مع الرومان واليونان رمزا للآله باخوس أصبحت دلالة على شعب الله (مزمور 79) ثم رمزا انجيليا بقول المسيح : أنا الكرمة وأنتم ألأغصان مما يدل على الاتحاد الروحي بين المؤمن ويسوع. أما الرمان فهو علامة الخصب والذرية الكبيرة ورمزها ألإلهة أناهيتا ربة الخصب. زهرة اللوتس رمز مصر العليا ويعني الطهارة والولادة المتجددة. لا ننسى الأكانتس رمز القيامة التي نراها منقوشة بكثرة في كنيسة سمعان العمودي. يكون المؤمن كالشجرة المثمرة التي تعطي دون حساب بينما الشجرة اليابسة تحرق وتلقى في النار.
- ترمز السمكة إلى أعجوبة تكثير السمك كما ترمز إلى رمز المسيحيين الأوائل بكلمة 'ΊΧΘΥΣ' ' ايخثيس' باليونانية حيث يعني كل حرف كلمة يسوع المسيح إلهنا ومخلصنا. وهذا الرمز ظل شعارا للمسيحيين الأوائل في فترة الاضطهاد للتعارف بعضهم ببعض خلال القرون الثلاثة الأولى. في اللوحة يظهر مشهد أعجوبة السمك عندما أطعم يسوع الجموع.
- استخدمت عناصر وثنية كالطاووس المتربع على عرش البهاء والجمال والذي يرمز إلى الخلود فأصبح يرمز هنا إلى 'ملك ملوك الأرض' كما جاء في سفر الرؤيا. ومن يشارك في وليمة الرب فيتناول جسده ودمه يصبح خالدا مع المسيح.
- أما الحيوانات فكانت لها رموز ودلالات: النسر رمز يوحنا الإنجيلي والجاثم على قمة جبل الفردوس يجسد التجلي والسلطان الأرضي لحمل الله، الأسد يمثل القوة والشجاعة والسلطة، الأرنب يرمز إلى الجبن والسحر, الحمل كان رمز التضحية مع البابليين ثم مع النبي إبراهيم الذي أطاع الرب بتضحية الحمل عوض ابنه إسحاق، عجل الثور له رمز قرباني للفداء 'حينئذ يقربون على مذابحك العجول' من المزامير، الأيل يرمز للنفوس العطشى إلى نبع المعرفة الإلهية الحياة الأبدية، والثعبان يرمز للمعرفة والحكمة والطب والشر، والديك إلى نكران المسيح مع بطرس الرسول، الحمامة رمز الروح القدس والسلام مع نوح...
وهناك قائمة طويلة من الحيوانات والقطعان والمواشي والوحوش والحيوانات الغريبة من أفريقيا وآسيا فكأننا أمام موسوعة من التاريخ الطبيعي.
لا بد من التنويه هنا أن المشاهد والصور عينها التي تدل على عمل الخلق، يمكنها أن تفهم على أنها رموز إلى الإيمان، استعارات لها معنى أعمق، أراد الفنان ألفسيفسائي أو المكلف بالعمل والمعنى، إن لم يفسره نص مرافق، يبقى من طبيعته غير واضح، ولكنه مع هذا لا يكون غير حقيقي.
في هذه القراءة الرمزية-الاستعارية، يمكن عرض الأنشطة البشرية المختلفة. فمشاهد الصيد التي ترينا الإنسان يجابه وحشا تذكر بالتقليد الكتابي الذي يؤكد على ضرورة سعي المؤمن في مجابهة الشر والتضحية الدائمة لينتصر الخير في العالم.
خاتمة : من المؤسف حق أن يتزاحم العلماء والمختصون والسواح الأجانب من كل حدب وصوب لزيارة هذه التحفة الفنية الفسيفسائية الأكبر مساحة في العالم بينما القليل القليل من أهل بلدنا يعلم بوجودها. هنا يأتي دور وسائل الإعلام (المقروءة والمسموعة والمرئية) والثقافة والتربية في نشر هذا الحدث وتشجيع المواطن على احترام وحب والمحافظة على آثار بلادنا ليفتخر بها أبناؤنا في الأجيال القادمة.
بقلم: ألان فينكيلكروت
2013-09-29
المدرسة والتعليم... في عصر العالم الرقمي السائل والآني
المدرسة والتعليم... في عصر العالم الرقمي السائل والآني
بقلم: ألان فينكيلكروت
دعوت في 2007 ال....