الكلمة صار بشرا وعاش بيننا، فرأينا مجده مجداً يفيض بالنعمة والحق...' (يو 1/14)
بهذه الكلمات البسيطة، رغم كونها عميقة جدا، سجل يوحنا الانجيلي اعظم حدث في التاريخ. الكلمة الذي منذ الازل لدى الله، 'وكان الكلمة الله' (يو 1/1) سكن وعاش بيننا، اصبح واحدا منا.
لهذا السبب الاساسي، فالميلاد ليس حدثا كغيره، هو الحدث. محور التاريخ وقمته. ازاء البشرى المنبعثة من مغارة بيت لحم ليس من مجال للحياد او اللامبالاة. فقط، القبول الكامل او الرفض الكامل! اذا كان الله قد تدخل في التاريخ، فتجسد ابن الله هو المحور لهذا التدخل، والذروة التي ما بعدها ذروة. من هنا عظمة الميلاد الفريدة.
ليس تجسد الابن الازلي وهما او خرافة او اسطورة، بل الحقيقة الثابتة، النقطة المحورية. قمة تاريخ الخلاص. وليس الكتاب المقدس عرضا تجريديا عن الله، شهادة قوية لتأثيره وفاعليته مدى الاجيال. لقد اوحى لنا الله حضوره في الزمن بأنواع عدة، كما جاء في بدء الرسالة الى العبرانيين: 'ان الله كلم الآباء قديما في الانبياء مرات كثيرة وبأنواع شتى، وفي آخر هذه الايام كلمنا في الابن الذي جعله وارثا لكل شيء. وبه انشأ العالمين. وهو شعاع مجده وصورة جوهره وضابط الكل بكلمة قدرته' (1/1-3).
الله لا يوجه ولا يعمل ضمن اطار مبدئي مجرد او محض روحي، بل في حياة الناس الواقعية، في التاريخ المسمى الدنيوي الذي يحوله تاريخا مقدسا ويعطيه معنى نهيويا وابعادا ابدية. بشرنا العهد القديم بهذا الالتزام الالهي، الفائق الطبيعة في التاريخ. لكن بشارته كانت مقدمة وتهيئة لحدث اعظم: تجسد ابن الله وحده حقق بالكمال التزام الله في التاريخ البشري.
'الكلمة صار بشرا تعبير يرمز الى محبة الله اللامتناهية التي كانت السبب الاولي لقراره التاريخي بأن يكون عضوا في بشريتنا، لكي يوحي لنا اسرار العالم الالهي ويوصلنا الى الله. للتعبير عن حبه العطوف، رفع يسوع المسيح هذه الارض الى السماء. اخذ شكل الطبيعة البشرية. اصبح انسانا سويا مثلنا، شبيها بنا، بكل شيء ما عدا الخطيئة، على قول الرسول بولس. سكن في منزل البشر، في المدينة الارضية.
ليس الميلاد تذكارا لحدث عادي بسيط او مهم بل، كما ذكرنا هو الحدث. هو احتفال خلود بحقيقة عظيمة وسامية، على نورها يجب ان نشاهد ونقيم كل الحوادث البشرية. هذه تكون حقا انسانية بمقدار ما تعكس النور الذي يأتينا من مغارة بيت لحم.
ميلاد يسوع، او دخوله التاريخ والزمن، يصبح حدثا في حياة كل انسان عندما يكون هذا منفتحا على الله وعلى الآخرين بجهوزية كاملة، وامكان هبة الذات والتضحية من اجل الغير. انه حدث مهم في حياة المجتمع عندما يتفاهم الناس ويساهمون، معا عندما تبحث الدول جديا عن العدل والسلام والحرية وتسعى الى تحقيق هذه المبادئ السامية.
يصبح الميلاد حدثا عظيما في التاريخ العالمي عندما يقدم الحاكمون خطوة، ولو صغيرة، لبناء ارض جديدة يكون فيها التعايش بين الشعوب غير مستند الى الرعب النووي او الجرثومي، بل الى المساهمة الصادقة والمخلصة لصالح الآخرين، وبخاصة لمساعدة الدول النامية.
ابن الله المتأنس يولد من جديد في عمق اعماق كل انسان عندما نستقبله بالايمان والعماد، هذا الميلاد الجديد ليسوع فينا هو الاشتراك بالحياة الالهية. انه فعل نعمة وخلاص. هو نوع جديد لكينونة الانسان، واقع الهي يدخله فجأة، بل يغزو حياته، ويصنع منه انسانا جديدا. يحوله ابنا لله ليس بالتبني الخارجي البسيط والقانوني وحسب، بل المعنوي السامي لانه من الله يأخذ حياته عينها. ولهذا السبب قال يوحنا الانجيلي: 'اما كل الذين قبلوه، وهم المؤمنون باسمه، فقد اعطاهم سلطانا ان يصيروا ابناء الله. هم الذين، لا من لحم ودم ولا من رغبة جسد ولا من مشيئة رجل، بل من الله ولدوا (يو 1/12-13).
نزل الله الى ارض البشر محررا وفاديا ومخلصا، لكي يقدم لكل انسان الغفران والمحبة وحياة جديدة. هذا هو معنى ميلاد يسوع المسيح في مغارة بيت لحم، وفق مفهوم المسيحيين الواعين مسؤوليتهم والملتزمين ايمانهم. عيد الميلاد هو احتفاء واحتفال بدعوة الانسان الفائقة الطبيعة: 'ان يصبح ابن الله بالتبني'. وفيه تذكير بشرف الخليفة البشرية التي لم تخلق على صورة الله ومثاله وحسب، بل هي معدة لقبول حياة الله عينها.
الاحتفاء بالميلاد يشكل الاقرار والاعلان انه منذ دخول الكلمة الازلي التاريخ والزمن كل شيء طبع بقبوله او برفضه. هو التأكيد ان التاريخ في جوهره تاريخ الخلاص، لان حدث الميلاد يطلب من كل انسان خيارا حاسما. لهذا قلنا ان الميلاد هو الحدث التاريخي بامتياز، وليس حدثا كغيره. انه اعلان الانسان – الاله للبشر، واعلان الانسان لنفسه، لان المسيح هو الحقيقة النهائية حيال الانسان.
لكي يعرف هذا المخلوق السامي قيمته الشخصية عليه ان يسأل، ليس فقط علم الاحياء والسيكولوجية والعلوم الاجتماعية والفلسفة، بل خصوصا ابن الله الذي صار بشرا لانه هو ينير بكمال الطرق البشرية واعمال الانسان ومؤسساته. انه يوضح لكل مخلوق عاقل من هو: اصله ودعوته ومصيره. لذا، فرسالة طفل المغارة التي نقبلها في زمن الميلاد لها تأثير عظيم وانعكاسات ايجابية لا محدودة على حياة الافراد والمجتمع كافة.
بقلم: ألان فينكيلكروت
2013-09-29
المدرسة والتعليم... في عصر العالم الرقمي السائل والآني
المدرسة والتعليم... في عصر العالم الرقمي السائل والآني
بقلم: ألان فينكيلكروت
دعوت في 2007 ال....