منذ سنوات قليلة انا مذهل بتركيب الجسد البشري. كيف تحوي النطفة في طاقتها كل الانسان. أنشتين كان مهيأ لعظمته منذ اللحظة الاولى من تكوينه في الحشاء لكنك تنمو في الزمن وتتشكل وتتغير بالتربية والخبرة ولكن في حدود الجينات التي انت منها وفي حدود الذاكرة الجماعية التي منها تجيء. لا اتكلم هنا على الابراج ولكن على ما اورثك ابوك وامك في عملية حب ومما يحملانه في جسميهما وربما في عقلهما ومن مناخ البلد وربما من نشوئهما الديني والثقافي. نحن امام سر كامل كنهه عند الله ونعلم قليلا 'وغابت عنك اشياء'. هذا ما زاد اعجابي في التكوين البيولوجي الذي يعجز العلماء كليا عن تقديره.
وفيما يلفتك في هذا المجال انك تأكل طعاما وبعد ساعتين يصير جزءا من عينيك ويديك وكل اعضائك. نحن اذاً مخبر كيميائي كامل وينتهي هذا المخبر باختلال وظائفه اي هذا التفاعل العجيب بين اعضائك.
هنا يستوقفني الموت المسجل فينا منذ تكوين الجنين اذ نحيا من بعد الولادة ونموت معا بمعنى ان النمو لا ينتهي عند نقطة تبدأ فيها حركتنا الى الموت. الحياة والموت مترافقان منذ البدء وهذا بفضل الحب الالهي الذي اوجدنا وبهذا الحب نفسه الذي يستردنا الى الله عند اختلال وظائف الجسد.
بين هاتين الحركتين يعمل الاطباء. وظيفتهم ان يؤخروا الموت في علم تراكمي منذ هيبوقراط الذي كان لي فرح الصلاة على قبره في جزيرة كوس في اليونان. الاطباء حولوا الواقع الى نظريات وحفظوا خبرته وجعلوها فنا. انهم يصارعون معك الموت. ويلاحظون اقترابه او حدوثه المفاجئ وهذا ما اكسبهم الى التنظير فنا كبيرا فيه الكثير من الحدس. تعاون الاطباء على قدر ذكائنا ولكن ليس من عالِم في العالم يعرف متى تموت. وانا عندما اضع رأسي على الوسادة استغفر لشعوري بان شيئا في العالم لا يضمن يقظتي في الصباح الآتي.
وما زاد في ذهولي ان بعضا من نبات الطبيعة ولحم بعض الحيوان مكون بكيمياء ليصير جسدك. من وضع هذا الانسجام بينك وبين الطبيعة؟ هل اتى هذا كله بلا حساب ام ان فكرا واحدا جعل بينكما وحدة غايتها انت. لا تستطيع ان تنكر امام هذا العالم المتعدد، المتلون انه يتناغم والجسم البشري وكأنك انت غاية الطبيعة وان الوجود كله هو بالدرجة الاولى فكر متعال نقضي في هيمنته حياتنا على الارض. واذا كان الانسان غاية هذا الكون وليس العكس فمعنى ذلك ان هذا الفكر (او هذا المفكر السامي) يحب الانسان على الطبيعة ويحب الارض على بقية الاكوان ولهذا استطيع ان اؤكد مطلع سفر التكوين: 'في البدء خلق الله السماوات والارض'. لماذا جمع الكتاب كل المجرات والنجوم التي نعرف ولا نعرف باسم السماوات وجعل الارض متفردة عن كل الوجود. اليس لان مليكها هو الانسان الذي تقول التوراة ان الله خلقه على صورته كمثاله؟
فينا اذاً جمالات كثيرة قبل ان نموت. تنزل علينا رؤى ونبدع في الكلام والفنون والتقانة (ويؤثر الاكثرون على تسميتها التكنولوجيا). وبهذا الى اخلاقنا نشبه الله. غير اننا نمر بمراحل لندرك النهاية، نهاية هذا المطاف.
تأملت كثيرا في هذه المراحل بعدما ادركت شيخوخة طاعنة اتخذ فيها وقايات كبيرة دفعا للموت ولست ارى ان كفاحنا البيولوجي وتحركنا النفسي يعنيان غير هذا. ويختلف عنهما الجهاد الروحي ومضمونه لقاؤك الله هنا وفوق وبهذا وحده تتغلب على الترابية التي فيك.
غير انه يجدر بنا ان نتأمل في مراحل العمر وهي ثلاث: الطفولة مع المراهقة، الكهولة والشيخوخة لكي نثمر عند كل اجتياز. انا ما ذقت الطفولة لما كنت فيها ربما لان والديّ اراداني على شيء من النضج فيها والقفزة فيها مخاطر لان الطفولة ولاسيما المراهقة تنتقم اذا تجاهلتها. كان والدي يكرهني على مطالعة بعض من صحف ومجلة 'الدبور' وانا في السابعة وقبل العاشرة كنت افهم من هذه الادبيات الكثير ولكني ما تعاطيت الرياضة في المدرسة لان رفاقي اعتبروني غير فهيم في هذا المجال.
غير اني منذ اربع سنين لظروف عائلية لم تتسن لي من قبل شاهدت الاطفال للمرة الاولى في حياتي بمعنى التعاطي والحب وما استطعت من فهم. والى الآن لا افهم كثيرا المراهقة المتقلبة، المزاجية احيانا. فاستغربت ان الطفل ليس ببريء كما تظن العامة فعنده هزء يتسلط فيه وغنج يستغل فيه ولكن كثيرا ما كانت عنده العفوية واريد بها العلاقة المباشرة التي يسميها الانكليز Immediacy ولو كان عنده احيانا بعض من سياسة اي نوع من التخطيط القصير المدى. رأيت في الطفل الخطيئة ولكن بلا محاسبة اذ يعوزه الرشد الذي يؤتي الانسان المسؤولية.
الى هذا الطفل قادر على العطاء وعلى عاطفة جريحة، احيانا ولو لم يحفظ السوء لكنه يحفظ الخوف. احفظ في الاطفال هذه الصلة المباشرة التي يقيمونها بلا مواربة ولا محاباة. هذا ينبغي ان نبقيه طوال الحياة والا نبقى على الجهالة عند الاطفال ولا على تقلبات المراهقين حتى تستقيم الحياة عند الكبر.
لن اكلمكم على شبابي اذ لست قادرا على تحليل نفسي كثيرا. ولكني اختلط بالشباب الذين ارعى ويروقني الرفض عندهم لاعوجاج القادة ولكون الفضائل المفروضة في الكهولة باتت باهتة. واعذر تمردهم واخشى طموحات لهم متصلة بما يشتهون ان يكسبوا. وهذا ما اراه اكثر فاكثر اذ لا تكاد تسأل فتى لماذا اخترت درس علم الحاسوب فيجيبك هذا يدر مالا كثيرا. مع اني اكره مقارنة الاجيال لا بد لي ان اذكر بان الذين اقبلوا منا على الحقوق والطب والهندسة ولم يكن غيرها في الجامعة اليسوعية ما سمعت منهم ان هذه المهنة او تلك تؤمن لهم دخلا كبيرا. لست اقول اننا كنا قديسين ولكن كان عندنا تطلع الى جوهر المهنة وانسانيتها.
الشباب حيوي ولست اريد بذلك قدرة الاجسام في كل طاقاتها ولكنه يحس بالحياة ووعودها بما في ذلك حياة الفكر وتأجج الالهية فينا. فالشاب اراه عظيم التقوى وعميق الرؤية الدينية في كثرة الاحوال صحيح ان النبي داود قال: 'خطايا شبابي وجهلي لا تذكر'. ربما كان صاحب المزامير يتوب عن معصية فظيعة ارتكبها ونحن نعرفها ولكن لا شيء يشير الى ان الشاب افتك جهالة في هذا المجال من الكهول واحفظ من هذا العمر الحيوية والتي اتمنى ان تستمر فينا بلا زهو.
اما الكهولة فهي العمر الصعب والبركات ايضا. ففي سن الاربعين وما قبيلها او ما بعيدها تحدث لكثير من الناس اهتزازات نفسية وروحية سماها الروائي الفرنسي بول بورجيه Le démon de midi مقتبسا عبارة المزامير 'شيطان نصف النهار'. الاربعون هي مرحلة الشك ولكنها هي ايضا مرحلة الابداع الفني والفكري اذ ان الاكثرين كانوا بلغوا الكهولة عندما شرعوا في الكتابة. ربما اتى الشك والابداع معا من اضطراب الكيان اي بدء الانهيار الجسدي وشيء من الانهيار النفسي.
عند هذا التراجع الجسدي للحيوية من المؤكد ان معظم الكهول يصيرون اعظم سماحة اذ يلاحظون ان الضعف شأن جميع الناس وانهم اخفقوا في ان يكونوا عظماء في الروح. ولكن اذا حفظ الكهل عفوية الطفل مع الفكر وحيوية الشباب ولم يخسر مثاليته يكون قد بلغ نضجا كبيرا.
لست اعلم بعد ان كان للشيخوخة خصوصية او حسنات فهي على ما ارى تكمل سماحة الكهول وربما في مقدار اكبر لانها ترى الناس يضعفون. الشيخ بعامة ينام على امجاده ولا يحب الكفاح الذي منه التغيير وقد يكون على شيء من الحزن لان انتهاءه في الارض يكتمل. طوبى لذلك الذي تضمحل عنده خشية الموت ويحافظ على حيوية لا تأتي من جسده بحيث يكون – على صعيد الوجدان والرؤية – طفلا وشابا وكهلا معا فلا تخفى فضيلة فضيلة او هبة هبة وتكون الاعمار غير حاجبة للحياة الواحدة. واميل الى الاعتقاد اليوم ان طول العمر عطاء من الله لنتوب اليه اذ تأكلنا الشقاء او بعض شقاء فيصبح الكيان البشري بكل جوانبه فيرانا الله على بلورية تروقه.
بقلم: ألان فينكيلكروت
2013-09-29
المدرسة والتعليم... في عصر العالم الرقمي السائل والآني
المدرسة والتعليم... في عصر العالم الرقمي السائل والآني
بقلم: ألان فينكيلكروت
دعوت في 2007 ال....