.
هنا حوار مع الراحل الكبير الفنان الريادي منصور الرحباني كنت أجريته معه العام 2001 لمنشورة ثقافية وعربية ولم ينشر في حينه. هنا أبرز محطات الحوار المطوّل الذي سجلته والأستاذ منصور تحت وطأة اجتماعات فنية كانت في انتظاره مع أبنائه.
ليس أمراً يسيراً أن تحاور رجلاً من وزن منصور الرحباني. تحاول التأمّل ملياً في المجال الإبداعي الرحباني الشاهق المترامي لتحديد مسارات الحوار ونقاطه الجوهرية، لكنك لا تعثر الاّ على حيرة. من أين البدء؟ وكيف؟ فمنصور أقنوم في الثالوث الفني اللبناني والعربي الذي بلغت عظمته هالة الرمز. إبداع طال مرتبة الرسالة في ميادين ثلاثة. الموسيقى، المسرح، والشعر. وان تسألْ في أيّ منها كانت البصمة الرحبانية أقوى فلن تفوز سوى بما يشبه اللغز. ذاك أنه يبدو مستحيلاً الفصل بين حقول العطاء الغني الرحباني السخي والريادي والمتشعّب، تماماً كما يستحيل الفصل ابداعياً بين عاصي ومنصور وفيروز. هل عاصي هو العبقري الموسيقي الذي عبرت موسيقاه إلينا كما تعبر طهارة النشيد، القلوب؟ أم تراه منصور هو الشاعر المبدع الذي تسلّلت قصائده إلى ثنايا الروح والوجدان؟ أم هو صوت فيروز المفطور على عذوبة وصدق وحنان يعجز المرء عن فكّ أسرارها، احتضن الكلمة والنغم الرحبانيين بحب وموهبة فائقين فحملهما على متنه ذخيرة إلى عشّاق الأرض وأحرارها؟ كفى أسئلة. الأكيد أن التجربة الرحبانية الشديدة الفرادة تلبث ظاهرة فنية وإنسانية نحتاجها دوماً لما تنطوي عليه من تمجيد لحرية الإنسان وكرامته. من قيم الحق والجمال العريقة نهلت، واليها أبداً تاقت. في ظلال الحب الرحباني الساحر ترعرعت أجيال وأجيال، وقلوب كثيرة كثيرة تعانقت. ومن منا لم يستعر من أغنية رحبانية ما يعبّر به لمن يحب عما يختلجه؟ وأيّ لبناني أو عربي لم يُغرِه الوطن كما بناه الرحابنة في ذاكرتنا؟
في اختصار، هنيئاً لذاكرتنا العاطفية والوطنية نحن أبناء الشرق بالمحطة الرحبانية المضيئة التي شكلت منعطفاً طليعياً ونهضوياً في تاريخ الفن الشرقي والعربي.
منصور الرحباني الذي كان وزير الثقافة اللبناني السابق غسان سلامة قلّده وسام الأرز الوطني من رتبة ضابط أكبر، قبل الوسام شرط أن يكون مناصفة بينه 'هنا' وبين عاصي 'هناك'. وفي حوار مطوّل معه تحدّث عن 'واجبه في متابعة الرسالة وحده، وان كان طيف عاصي لا يفارقه'.
منصور يعيش مع الكتب. يقرأ ساعة وينام ساعة. همه الاستمرار في العمل 'من أجل اكتمال إنسانية الإنسان'. يكره التنظير في الفن لكنه يشدّد على ضرورة التجرّد كي يكون الفنٌّ أصيلا. من وراء صوته العريض ونبرته المتماسكة لاحت لي شفافية 'الغريب الآخر' متكلّماً على الوجود والابداع والشعر والطبيعة وايضاً التوق إلى العدل.
بين معضلة الزمن التي ركّز عليها الأخوان رحباني في أعمالهما، وبين الماوراء، أين منصور اليوم؟
منصور الرحباني: قضية مرور الزمن الشعري شيء والحقيقة التي أؤمن بها شيء آخر. الزمن والوقت لا يمرّان. نحن نمرّ في الزمن. الوقت يثقل على الوجود والأشياء. له ثقل لا نحسّه لكنه هو الذي يفني أجساد البشر. وجسد الإنسان يدوم بقدر ما يستطيع مقاومة ثقل الزمن الذي لا يتحرك فيما نحن الذين نعبر. اذاً ليس ثمة اطلاقاً مرور زمن. منذ عشرة آلاف عام، الزمن هو نفسه إنما الأجساد تشيخ وتموت، وما يسحقها هو الزمن.
محاولة استحضار أجوبة على الأسئلة الوجودية الكبرى، لكن كلما اشتغلتما في هذا الاتجاه وجدتما أن الأجوبة ابتعدت أكثر. أين أنت من الأجوبة راهناً؟
لا أجوبة. هي ما زالت تبتعد. إذا كنت تعنين تحديداً الأجوبة الماورائية، لا أتصوّر أنّ أحداً يمكنه بلوغها. هي تدخل في مسألة الإيمان. إن أردت أن تؤمني فعليك أن تؤمني بلا أي شعور منطقي، بل بإحساس مثل إحساس الراعي وإيمان الإنسان الطيب البدائي والبسيط الذي يتكل دوماً على القوة التي خلقته. وعندئذ يؤمن ويرتاح. لا شك في أن الإيمان بلا مناقشة يريح. الإنسان الذي يريد البحث عن براهين لن يجدها. ليس ثمة إنسان ملحد مئة في المئة. الملحد هو الإنسان الخائف والذي يريد ضمانات فورية على وجود حياة أفضل. اذاً لن تكون أجوبة. أذكر أنني نظمت قصيدة في العشرين من عمري. ختمتها هكذا: 'خبّريني عن الغيوم وهاتي كلّ سرّ يموج بالمعميات، فأنا أنشد الحقيقة دوماً واشتياقي يطلّ في نظراتي، من كهوف الظلام للنور أحبو غير أني ما زلت في الظلمات، فسنيّ العشرون ضاعت صراعاً والى الآن لست أدرك ذاتي، كلّ شيء عرفت هو أني شبح عابر بوادي الحياة، فإذا ما لمحت ضوءاً صغيراً طلع الفجر وامّحت ذكرياتي'. هذا ما كتبت في العشرين وما زلت أحسّه حتى اليوم.
ألم تنشر هذه القصيدة؟ وما عنوانها؟
عنوانها 'مولدي' ولم أنشرها. حتى الآن ما يزال السؤال هو نفسه. وغداً أمضي ويأتي آخرون، والسؤال باقٍ. امّا الإيمان المجاني أو اللاايمان. أنا وعاصي تعبنا كثيراً وهذا ما مسح حياتنا بالقلق. لكن هذا القلق هو قلق الإبداع، الذي يثمر. الإنسان المسطّح هو السعيد. والمؤمن البالغ الإيمان الكبير والفرح الأكبر يبدع ويستطيع أن يعطي. والإنسان الطيب يعطي أيضاً. أما الإنسان العادي فلا يبدع. هذا القلق الذي عشته وعاصي دفعنا إلى العطاء.
اذاً لا تملك ما يسمى استسلام المؤمن؟
حتى الآن، كلا. كلما اقتربت من المقلب الآخر يساورني الشك.
هل تشرح لي هذا الشك قليلاً؟
ينبغي ألا نكون سطحيين. أنا إنسان في صلب الإيمان، لكن لا أعرف... (يصمت).
كأنك ترفض الاستسلام الكلي للإيمان لئلا تشعر بنوع من الضعف؟
كلا. كلا. لكن، ثمة أمور تستلزم الكثير من النقاش. لذلك أفضّل عدم التكلم في هذه الأمور وألا أنشرها الآن لأنها تحدث ضجة كبيرة.
اذاً تكونت لديك نظرة معينة ترفض الكشف عنها.
لم أصلْ بعد إلى أي مكان. لكن هناك أشياء من الضروري مناقشتها فيما تساور المرء شكوك يرثها من خلفيته الدينية، فلا يستطيع إلا أن يتأرجح بين الشك والإيمان.
وكيف تصف علاقتك بالله؟
جيدة جداً. أنا من الأشخاص الذين يصلّون ويؤمنون كثيراً بالله. لكنني أتلو صلاة خاصة بي.
وما وجه الخصوصية فيها؟
إنها كالكلام الذي يتفوه به الناس الطيبون، البسطاء.
ما تعريفك بالطيبين؟
هم الناس الشعبيون، المستسلمون. حين أكلّم الله أستخدم لغتهم.
سؤال مؤلم لك لكن لا بدّ منه. كيف بتت تنظر اليوم إلى مرحلة ما بعد عاصي؟
أنا إنسان واقعي. هكذا حصل. رحل عاصي ذات يوم. مما لا شك فيه أن عاصي إنسان مهم جداً. أنا أقول دوماً انّ عاصي كان ضخماً جداً، موسيقياً. وقد يكون على مستوى الشعر أكبر شاعر دراماتيكي مرّ في هذا العصر، لا هنا فقط، بل في العالم كلّه. الآن، كيف أنظر إلى مرحلة ما بعد عاصي؟ أنا أكمل. عليّ إكمال الرسالة، لأنني لو كنت رحلت كان عاصي سيكمل حتماً. هذا ما ينبغي قوله بكل قسوة وواقعية. لقد كتب علينا ألا نتوقف، وأن نصمد عبر الكتابة، وأن نصمت ونحن نكتب. هذه هي الرسالة، ولا يمكنني أن أقول سوى انني أتابع. كيف كانت الأمور ستتطور لو كان عاصي حياً بعد؟ طبعاً في صورة أخرى. ذاك أن ثمة اثنين لكنني اليوم أتطور كما أنا. حتماً في داخلي شيء من عاصي.
لا بد من شعور بالمرارة حين تحس بالحاجة لوجوده أحياناً.
دوماً، وهذا أمر أساسي جداً في حياتي. عاصي موجود معي. موجود معي كلّ لحظة.
كيف أثّر الرحباني الوالد على مسيرتكما الفنية، إذ كان يحب الشعر كثيراً ويعزف على البزق ويغني؟
كان والدي أمياً تقريباً، وكان 'قبضاي' وممن يقتلون في مرحلة معينة من حياته. لاحقاً، حين استقرّ على 'فوار انطلياس'، تنكّر لماضيه وأصبح انساناً طيباً جداً، إذ استيقظت الطيبة فيه. صار يحتسي كلّ مساء كأساً ويطرب نفسه بعزفه على البزق وبقليل من الغناء. لا يمكننا القول انه كان صاحب صوت جميل، إلا أنه تمتع بصوت معتدل وصحيح (une voix juste). كنا نستمع إليه، وتروح جدتي وأمي وخالتي يشاركنه، ونشاركه نحن أيضاً حتى نتسلى.
غير أن والدي كان يفرض عليّ وعلى عاصي نظاماً قاسياً جداً. ربما كان يخشى علينا من العادات السيئة والاختلاط برفاق السوء. لم يدرك أن الأفكار تنبع من داخل الإنسان لا من الخارج. لم يكن يقرأ إلا شعر عنترة. كان طيباً وقاسياً في الوقت نفسه، وسريع الندم. كان يرسلنا ثلاثة أشهر إلى المدرسة، علماً أنني كنت كسولاً بينما عاصي ذكي ومجتهد. ثلاثة أشهر في 'الفوار' وأنا وجهاً لوجه مع عاصي. ربما نبع إبداعنا من العزلة والوحدة.
هل لأن العزلة تسهّل الإصغاء للذات؟
حين يكون صمت، يعلو الهدير الداخلي. أنا أرى كلّ شيء نابعاً من داخل الإنسان. لو لم يكن الداخل هو النبع لما تفاعل مع الأشياء. ربما قادنا والدي إلى هذه الطريق من غير قصد. أي أنه عزلنا أنا وعاصي. كبرنا معاً ونحن نحكي لبعضنا حكايات. كان عاصي يخترع لي قصصاً تتخطى عمري عن أناس لا يكبرون، عن أناس عادلين ومحبّين. هذا خلال أشهر الدراسة الثلاثة في أنطلياس. وفي الأشهر الثلاثة الأخرى في الجبل، كنا نجلس وجهاً لوجه مع الطبيعة. نتأمل تحوّل الظلال ساعات وساعات. نتامّل احمرار الشمس على الصخور، نتأمل النمل والقنوات التي يشقها... وفي المقابل، عايشنا الناس في عاداتهم. عصرنا العنب وقطفنا الكروم. عشنا في وجه العاصفة وهي مقبلة في أواخر الخريف، وكنا نضطرّ أحياناً للجوء إلى الدير لأن منزلنا كان منعزلاً في حرج وغير مؤهل لمقاومة العواصف والأمطار. ربما أغْنت تلك الأجواء حياتنا.
ما هي رؤيتك إلى الشعر متجاوراً لديك مع الموسيقى والمسرح؟
أرى أن لا شعر خارج الطبيعة. في الماضي، جرّب الاتحاد السوفياتي (سابقاً) أن يخلق شعراً من وحي المعامل والمكاتب التي تصحّ تسميتها بالسجون الحضارية... في صورة عامة، أنا إنسان طبيعي جداً. أنا لا أنظّر في الشعر ولا أتكلم عن تجربة شعرية. أنا أحسّ وأتصرف من وحي أحاسيسي. لا أحب أن أمنطق ما أقوله أو أتحدُث عنه. صحيح أنني أكتب الشعر والمسرح والموسيقى لكنني أكره التنظير فيها. لقد تعلّمت ألا أشرح الفن، لأن الفن ليس بلاغاً حزبياً. كونك شاعرة، اياك أن تقولي لي: 'أنا قصدتُ كذا وكذا في قصيدتي'، بل دعيني أفسرها كمتلقَِّ، على هواي. قد يكون تفسيري لها أجمل مما تعتقدين. حين نعرض عملاً ابداعياً معيناً على خمسمئة شخص، نرى أن كلا منهم انفعل على طريقته ووفقاً لثقافته وفكره. المتلقي خلاّق آخر، ولا أحد يساوي الآخر تماماً في شخصيته. اذاً، سيكون للعمل الإبداعي خمسمئة تفسير جديد. من هنا أسأل لم نسجن العمل في التفسير الأحادي؟
(ويقطع الحوار طرق خفيف على الباب ويطلّ ابنه مروان رامياً التحية فنردّ، ويقول منصور: 'أهلاً مروان، ايه بابا؟ قرأت الفاكس؟ سننهي الحوار'، ويتوجه اليّ:'ينتظرونني، لديّ اجتماعات معهم').
البعض يعتبر أن لكل عمل إبداعي رسالة معينة فيما يركز البعض الآخر على أن المهم هو العمل في حد ذاته في منأى عن أي رسالة.
لا يمكن تجاهل وجود الآخر. ينبغي أن ننزرع في الآخر. أحياناً، أسائل نفسي وأنا أكتب: 'ماذا سيقول عاصي؟'. كلما أنهيت 'شغلة حلوة' أفكر ما هو رأي عاصي فيها. يحصل هذا معي برغم مرور زمن طويل على غياب عاصي.
أعتقد أن الإنسان ولد ليبلغ الآخر رسالة. أما من يقول انه يبني لذاته برجاً عاجياً فهو يكذب. كل شيء هو للآخر. أنت تعملين في سبيل الإنسان. وهذا الأهم. رسالتنا العمل من أجل ذاك الإنسان السريع العطب الذي جاء إلى هذه الدنيا ليعيش بانسجام مع الخير وبمصالحة مع الوجود.
اذا طرحنا مسألة الكتابة بهدف التغيير، وما دام ثمة آخر نتوجه إليه، فماذا تقول؟
أنا أحيل السؤال اليكِ:هل أنت تكتبين قصيدتك عبثاً؟
أكتبها لأقول ما أريد.
لمن؟
لأي كان
اذاً تريدين أن تبلغي الآخر شيئاً. أنا لست مع مسرح أو شعر الرسالة، لكن ما أقوله أو أكتبه سيصل حتماً إلى شخص ما. أريد التعبير عن أمور معينة لكنني ضدّ ال'مورال'. يصل مسرحنا أحياناً إلى أخر حدود التعقيد، أي أن عقدة العمل المسرحي كموضوع، تبلغ الذروة ويمسي الحلّ مستحيلاً. عندئذ تسدل الستارة.
المسرح الرحباني لا يتوجه إلى شعب محدّد أو إنسان ذي هوية محددة بل يتخطاهما إلى الشمولية. كيف تفسر هذا؟
من المحدود تفتح للإنسان طاقة إلى اللامحدود. لا عالمية من دون أرض للوقوف عليها. شكسبير وتولستوي يحتاجان أرضاً أو قرية لتثبيت الرواية أو القصة عليها، لكن العواطف التي يتناولانها عالمية. صحيح أننا نتناول مثلاً ضيعة لبنانية كمكان لعمل ما، لكن العواطف التي نتناولها تصيب كل إنسان في العالم. لا يمكنني القول: كان إنسان ما في ضيعة ما، بل يجب الأخذ من واقع معين كي يشعر المشاهد وكأنه هو نفسه واقف على المسرح، بوجعه، بتوقه إلى الحرية، بحزنه، بفرحه. أما إذا لم يراوده هذا الشعور فيحصل انفصال بين الخشبة والمشاهد. لهذا، مسرحنا ابن الواقع ويطول أكبر عدد من الناس من مثقفين وبسطاء وهامشيين وملتزمين.. إلى آخره.
ولكن في المقابل يؤخذ عليكم من البعض أن مسرحكم يضاهي الحلم غير القابل للتحقق، وتالياً فهو غير واقعي.
قالوا إننا صنعنا الوطن الرحباني الذي هو سريع العطب ولا يتحقق. وطننا هو القابل للتحقّق. هل ممنوع أن أحلم بأن عندنا عدالة مثل ما هي عليه في السويد؟هل ممنوع عليّ الحلم بوجود الديموقراطية وحرية الرأي كما في لندن؟ ماذا أطلب أكثر من هذا؟ كل ما أطلبه وطن بتلك المواصفات. في أي حال، لا يمكن الإنسان أن يحلم بأمور غير موجودة حتى الآن. كل ما نريده هو العدالة والحرية وكرامة الإنسان. نحن لم نسنّ دستوراً بل رسمنا الأشخاص المتعلقين بوطنهم والذين يقاومون، وتلك الحلوة العاشقة شباك غرفتها... في اختصار، تطلّعنا دوماً الى الخير والحق والجمال. وحين تكون هذه عبر المحيطين بنا يصير الوطن الحلم واقعاً وحقيقة. وهذا الوطن ليس بعيد المنال.
لكنه لم يصر واقعاً حتى الآن وقد يبدو الأمر مستحيلاً!
يجب توافر هؤلاء الناس، ناس الخير والحق والجمال حتى يتحقق. هنا الصعوبة ال أن الوطن الجيد قابل للتحقيق. والدليل أن بعض الوطن الحلم تحقق في أماكن أخرى من العالم.
هل في ذهنك نظام سياسي معين يمكن أن يقود إلى وطن الرحابنة؟
لا أؤمن بالحكم والنظام. كل حكم في الأرض باطل.
لكن الأوطان لا تبنى الا على أنظمة!
أكبر دولة تدّعي الحرية والديموقراطية والحفاظ على السلام نجد فيها أناساً مقموعين وتقمع حرية جماعات أخرى. حتى الدولة الديموقراطية حين تصبح قوية جدا تتحول شرسة وتروح تقمع حرية وديموقراطيات دول أخرى.
ليس في بالي نظام حكم محدّد لكن الجوهر في اكتمال إنسانية الإنسان وليس في النظام.
'المتنبي' آخر أعمالك المسرحية. لِمَ تلك الشخصية بالذات؟
منذ أكثر من ألف عام يُستعاد المتنبي يومياً. كم هم كثر الطلاب الذين يدرسونه في العالم العربي. وكم نستشهد جميعنا بأقوال وأبيات من غير أن نعرف أنه صاحبها. شعره يحيا دوماً بيننا. وما يستوقف في هذا الرجل هو عظمة نفسه، حبه للخير، وعشقه العظيم. كان عاشقاً إمرأة خبّأها في قلبه هي خولا. يقول البعض إن لا غرام وعشق في شعر المتنبي، وأنا وجدت خلاف ذلك. مسرحية 'المتنبي' نابضة حُبّاً. كل من يحضرها سيلمس ذلك حتماً.
وثمة مسألة أخرى تتعلق بأصول المتنبي وبيئته هناك من تجنّى عليه، وهناك من قال إنه ابن سقاء حيث أن الأمر ليس كذلك، بل هو ذو أصول نبيلة عظيمة جداً.
وهل تعلق أهمية كبرى على الأصول النبيلة؟
بلى، لأنني أعتقد أن من ينظم هذا الشعر ليس إنساناً عادياً، وليس ابن سقاء. يقول: 'وإني لمن قوم كأن نفوسهم بها أنَفٌ...'. أرى هذا الكلام نابعاً من أصول نبيلة.
لكن عباقرة ومبدعين كثراً انطلقوا من أوساط متواضعة جداً.
غالباً ما تُبرز الدراسات المعمّقة عنهم أن جذورهم ليست عادية.
عاصي وأنت نفسك وليدا بيئة متواضعة أيضاً.
هذا صحيح حتى الآن، لكن قد تقود أبحاث عن شجرة عائلتي إلى منحى آخر. في أي حال، ما أودّ قوله أن ثمة تعتيماً على سيرة المتنبي، ومن يدرس سيرته ويقوم بأبحاث عنه يكتشف هذا الأمر.
ماذا تتوقّع لـ'المتنبي' في مهرجانات بعلبك (لعبت ثلاثة أيام في 6 و7 و8 تموز 2001)؟
آمل لها كل النجاح. ولست أخفي التهيّب الذي يساورني إزاء كل عمل مسرحي أقدّمه.
وكيف تقيّم التجاوب الذي حصدته المسرحية في العالم العربي أخيراً؟ (لُعبت 'المتنبي' في دبي).
ليس ثمة أعظم من الاستقبال الذي فازت به. لا أعتقد أن عملاً آخر قوبل بمثل ذينك الاعتزاز والإعجاب.
أترد ذلك إلى كونك أضأت على شخصية عربية تحديداً؟
كلا، بل لأن العمل عظيم في حد ذاته. ماضياً، تم تسليط الضوء على شخصيات عربية كثيرة مسرحياً وتلفزيونياً. أعتقد أن المسرحية (المتنبي) عمل مهم جداً.
وأين تحدد نقاط القوة في هذه المسرحية؟
في التأليف والتلحين والإخراج، أي في تكامل عناصرها. أراها ذات مستوى عالمي.
حين يدخل فنان إلى الأفق الرحباني يصبح نجماً. هل ترد ذلك إلى حسن الاختيار لديكم وإلى الرؤيوية في كشف المواهب؟ أم أن النص أو التكامل في العمل الفني هما السبب؟
مهما يكن الممثل أو الفنان عظيماً، يلبث النص هو الأساس. ينبغي أن يكون النص قوياً، ذا عصب قوي.
ماذا تقول عن التجربة الشعرية للأخوين رحباني؟
لقد تأثر بشعرنا وبمعالجتنا الشعرية ثلاثة أرباع الشعراء في العالم العربي، حتى ولو لم يعترفوا بذلك، كما تأثر بموسيقانا جميع موسيقيي العالم العربي.
هل تسمي؟
لا أحب أن اسمي.
وكيف تحدد رؤيتك إلى الشعر أنت الشاعر 'الغريب الآخر'؟
الشعر لا يحدد ولا يسجن في كلمة. حسبنا أن نحس وننفعل، وأجمل الشعر لا يكتب.
كثر يقولون هذا، لكن ما جدوى الانفعال والإحساس في منأى عن التجسيد عبر الكتابة؟
يفقد الشعر الكثير من قيمته حين نخضعه للأسر وضوابط اللغة والحرف والكتابة، وطقوس التفكير فيه وكتابته.
كيف تنظر إلى الموت؟
لا أعرف (يصمت ثم يكمل)، لا شك أنني اتهيبه، الموت يعني انطفاء الإنسان، راحته
لكنك تكلمت على الإيمان، وكونك مؤمناً ينبغي، ألا يصوّر الموت انطفاءّ.
الموت ليس نهاية بل بداية. لكن المخيف هو التغيّر الذي سيحصل.
تقول بداية. بداية ماذا؟
بداية مرحلة جديدة نجهلها.
إلى أي مدى تعلق آمالاً على الرحابنة الأبناء إن لناحية امتداد الرحابنة الآباء أو لناحية ابتكار الجديد؟
أراهم في ابتكار خط جديد. يُفترض بهم حمل هويتهم. تأثروا بنا وتلقنوا الموسيقى وتأثروا بمحيطهم، لكن ينبغي أن يفتش كل إنسان عن ذاته ليعثر على شيء جديد. أتصور أن الرحابنة الأبناء جميعهم ذوو كفاية وتقنية.
وهل تشعر بالرضى على ما ينجزون؟
نعم، كأي زميل لهم، لا كأب. نحن زملاء.
حتى ولو شعرت احياناً بنوع من الانتفاض على نهجكم؟
طبيعي ان يكون ثمة انتفاض وإلا كيف يولد الجديد؟
سؤالي الأخير: لِمَ لا تتعاون أنت وفيروز؟
سوف نتعاون، سوف نتعاون.
كيف؟ متى؟
ثمة مشاريع. وأنا أفكر دوماً في مشاريع مع فيروز.
مسرح؟ أغنيات؟ وهل ذاك قريب؟
بإذن الله
....
بقلم: ألان فينكيلكروت
2013-09-29
المدرسة والتعليم... في عصر العالم الرقمي السائل والآني
المدرسة والتعليم... في عصر العالم الرقمي السائل والآني
بقلم: ألان فينكيلكروت
دعوت في 2007 ال....