في سبرها أغوار ما بقي بعد محو ذكريات الطفولة الأليمة، وقّعت مايا أنجيلو (المولودة عام 1928)، الشاعرة والكاتبة والممثلة والمناضلة السوداء الأميركية، عام 1969، سيرةً ذاتية تحوّلت إلى كتابٍ كلاسيكي واسع الانتشار. من ثمّ، وفي زعزعةٍ لأطر الأنواع الأدبية، قامت بكتابة خمسة ملاحمٍ مشهودة أخرى. وها أن كتابين لهذه الشاهدة المميّزة على تاريخ السود الأميركيين يصدران بالفرنسية.
يعيد كتاب 'أعرف لماذا يغرّد العصفور السجين' <1> مسار فتاةٍ سوداء صغيرة غادرت باكراً جداً براءة الطفولة: أرسلها والدَيها المطلقان في عمر الثالثة عند جدّتها في أركنساس، في الجنوب الريفي العنصريّ للولايات المتحدة، ثمّ تُعاد إلى أمّها في ولاية ميسوري؛ وتتعرّض في الثامنة من عمرها للاغتصاب فتغرق في صمتٍ طويل وترسل مجدداً إلى جدّتها... يصف الكتاب التأرجح الجغرافي والعاطفي كما التمييز العنصري المولّد لتبخيس صورة الذات، مع الرغبة في التحوّل إلى شخصٍ آخر...: 'واحدة من هؤلاء الفتيات الصغيرات البيض اللذيذات، الرمز الكوني لما هو مثاليٌّ في العالم'. وينتهي الكتاب مع الأمومة المبكرة لأنجيلو في السادسة عشرة من عمرها. تعيش الأم الشابة هذا الحدث المندرِج في سياق مسار الهوية الممزّقة، كإنجاز طالما أنا سوداء وتأكيد للقوّة.
تمتدّ أحداث '' <2> من 1957 الى 1962. تلبس أنجيلو البالغة، الملتهِمة للحياة سعياً وراء نفسها، سلسلةً من الأدوار: تارةً مغنيّة نادٍ ليلي، وتارةً راقصة، ثمّ كاتبة، وممثلة، ومناضلة، وصحافية، وامرأة، أو وزوجة. تقودها مسيرتها من سان فرنسيسكو إلى نيويورك، ومن مصر إلى غانا. في نيويورك، يشجعها جيمس بولدوين على الكتابة. تلتحق برابطة كتاب هارليم وتجد نفسها ضمن فورة حركة الحقوق المدنية. يزدان السرد بأحداثٍ تاريخية مسكونة بشخصيات عامّة التقتها أنجيلو أو تعرّفت عليها عن كثب: بيلي هوليداي، آبي لينكولن، مارتن لوثر كينغ. تفصّل أنجيلو انطلاقة التمرّد الذي طغى على هارليم إثر اغتيال باتريس لومومبا في الكونغو؛ ثم تسرد الحوار المذهل بينها وبين مالكولم إكس صاحب الحضور الباهر.
في هذا الجوّ من الفوران الجماعي، تلتقي ثم تتزوّج من فوسومي ماك، القادِم من جنوب إفريقيا، وهو المنفي والملتزم في النضال ضد الاستعمار. أقاما في مصر معاً، حيث عملت أنجيلو لفترة من الزمن في صحيفة Arab Observer. وبعد انفصال الزوجَين، عام 1962، ذهبت لتعيش في غانا المستقلّة برئاسة كوامي نكروما، حاملةً معها دفقاً من الدموع وحلمٌ واحد: تربية ابنها بعيداً عن التمييز العنصري.
يفصح الكتابان عن مسار صوتٍ يبحث عن ذاته، يؤكّد كرامته ويطالب بحريته. وتساهم القراءة في إخراج انجيلو الصغيرة من صمتها وتسمح لها السيرة الذاتية عند بلوغها سن الرشد بإنجاز نوعٍ من الترتيب لفوضاها الداخلية. ومن خلال الغوص في حميمية مسارٍ مضطرب وفي تاريخٍ جماعي صاخب، يغرف الكتابان المؤثّران قوّتهما من كثافة الصوت، الشاهد المتفهّم والخبير بفنّ السرد. الأسلوب صادم والإيقاع متّصل؛ أمّا السرد فهو سلسٌ ومرتّبٌ ليقترب من التخيّل. الكتابة بلا تفخيم، القلم في مواجهة، اللهجة فجّة في الغالب والنصّ مزدانٌ بتفاصيل الأحاسيس. ففي استدعائها البوح والتحليل النفسي الذاتي المدرِك، تروي أنجيلو نفسها دون تجميل أو إخفاء للغبار والشكوك والتصدّع...
بقلم: ألان فينكيلكروت
2013-09-29
المدرسة والتعليم... في عصر العالم الرقمي السائل والآني
المدرسة والتعليم... في عصر العالم الرقمي السائل والآني
بقلم: ألان فينكيلكروت
دعوت في 2007 ال....