الوقت في الفلسفة... ماذا نعني حين نقول «في الوقت نفسه»؟
الوقت في الفلسفة... ماذا نعني حين نقول «في الوقت نفسه»؟
بقلم: زكي بيضون
«الوقت»، المعنى الضمني الذي تحيل إليه هذه الكلمة الصغيرة لطالما شكل هاوية فعلية للعقل الانساني ما جعل من الصعب إدراجها في أي منظومة منطقية إلا بعد إخضاعها لعملية مضنية من الترويض والتحريف الانتقائي.
في فجر الحضارة العلمية بدا الزمن بالنسبة الى القدماء من الإغريق اشكالية مستحيلة.
كيف يمكن ان يصير شيء ما شيئاً آخر؟
كيف يمكن ان يكون شيء هو نفسه ثم آخر؟ كيف يمكن ان يخرج شيء من العدم أو يعود الى العدم.
المبدأ الأول في المنطق الأرسطي هو مبدأ الهوّية: لا يمكن لشيء ان يكون ولا يكون في الوقت نفسه. ولكن بالنسبة الى الكثيرين من اسلافه هذه الفرضية كانت بدت ضبابية ومبهمة فعبارة «في الوقت نفسه» لم تكن تعني لهم اكثر من حيلة لغوية.
هيراقليطس على سبيل المثال اعتبر ان التناقض هو الحقيقة الوحيدة المطلقة، وان كل شيء في صيرورة دائمة يناقض وينفي نفسه بلا توقف.
الوجود والعدم وجهان لماهية واحدة وكل شيء يكون ولا يكون في الوقت نفسه. فبمجرد ان تقول هذا يحصل الآن او هذا موجود الآن، يعني أن تلك الحقيقة تنفي نفسها في أفق الصيرورة الدائمة.
الشيء او المعطى الحسي في هذه اللحظة هو مختلف لجهة ماهيته عن اللحظة التي سبقتها. معنى ان تكون لحظة ما حاضرة الآن هو ان تمضي لتحل محلها لحظة اخرى تكون حاضرة الآن.
زينون، مثلاً اخترع اشكالية اخيل والسلحفاة: لنفترض ان اخيل أعظم عدّاء يوناني، يحاول ان يلحق بسلحفاة، اولاً سيقطع نصف المسافة بينه وبينها ثم نصف النصف، ثم نصف نصف النصف وهكذا الى ما لانهاية ولن يبلغ السلحفاة.
وتبعاً لإشكالية اخيل والسلحفاة فالحركة تبدو لزينون مستحيلة والتعدد المكاني هو مجرد وهم بالتالي. وقد عمم زينون واتبع هذه الاستراتيجية مع كل انواع الصيرورة والتعدد لتثبيت مبدأ «الوجود» الواحد المطلق.
أفلاطون دفع اشكالية الزمن الى حدود خرافية استمرت حتى القرن العشرين تنتج نظريات وقراءات جديدة.
الأسئلة وعلامات الاستفهام التي كان يطرحها كانت أعمق بكثير من الأجوبة التي كان يعطيها. عمق افلاطون وعبقريته الحقيقية تظهران في جانبه الريبي اكثر من الجانب البراغماتي الذي اشتهر به. بعد افلاطون نجد ارسطو يطرح النظرية التي صارت لاحقاً بداهة واضحة كالشمس وبخاصة بعد ان تبناها اقليدس.
تنص هذه النظرية على تعريف الوقت ككمية متصلة من الآنات المتتالية واعتماده مقولة من مقولات الكون وأحد أنماطه.
من أكثر الطروحات سحراً التي استلهمت الحضارة اليونانية كان اقتراح نيتشه في القرن التاسع عشر: نظرية العود الأبدي التي هي فكرة ميتولوجية بامتياز. وفقاً لهذا الاقتراح فالزمن هو دائرة تعيد نفسها بلا توقف وكل لحظة هي أبدية تتكرر الى ما لا نهاية، كل ما يحصل وكل الحصيلة التاريخية التي يتضمنها الماضي والحاضر والمستقبل حصلت مرات لامتناهية في الماضي وستتكرر هي ذاتها مرات لامتناهية في المستقبل. وعلى هذا المنوال يعيد «الوجود» نفسه الى ما لانهاية (يدخلنا دولوز لاحقاً من خلال قراءته لنيتشه في متاهة عودة انتقائية وهذا شأن آخر).
بعد نظرية أرسطو سيكون علينا ان ننتظر ألفي سنة تقريباً لنحصل مع كانط على قلب راديكالي للمشكلة.
اعتبر كانط ان الزمن ليس سوى «صورة الحس الداخلي أو صورة الحدس المحض لدينا اتجاه انفسنا وحالتنا الداخلية، الزمن لا يمكن ان يكون تعيّناً للظاهرات الخارجية فهو لا ينتمي الى هيئة ولا الى موضع، على العكس انه يحدد علاقة التصورات بحالتنا الداخلية». الزمن لدى كانط ليس سوى الصورة التي تحدس بها الروح نفسها كمقدرة حسية.
ولاحقاً يعتبر هيغل ان مفهوم الزمن المجرد احد اكثر البداهات خواء (يندرج في هذه الخاصية في المرتبة الثانية بعد مفهوم «الوجود») يعتبر الزمن السطح المفهومي المجرد الأول والمباشر للمعطى الحسي، وبالتالي فهو ينتمي الى مرحلة بدائية من تطور العقل. ولا يمكن ان يكون معياراً لزمنية الوعي أو الروح.
كل آن تنفي الآن التي تسبقها بينما مفهوم الآن المجرد ليس سوى النفي نفسه مأخوذاً بشكل مستقل عن كل آن متحققة.
لاحقاً في «المنطق الكبير» يعرّف هيغل الزمن بأنه الخارج اللامتعين (لكل آن متعينة) مأخوذ بذاته في شكل مستقل عن كل آن محددة. أخيراً هيدغر في كتابه «الكون والزمان» يدير الزمن والقلق والموت في فلك واحد، يعتبر هيدغر ان القلق هو التجربة الأولى الأكثر اصالة وحميمية للإنسان من حيث هو كائن واعي.
في حال القلق نشعر بأننا في كل مكان وفي اللامكان ولهذا ربما لو تلقينا عندها تنبيهاً من صديق لنا: ما الأمر؟ فكل ما يمكننا قوله لوصف الحالة «لا شيء».
كذلك في حال القلق يجد الوعي نفسه ازاء الوحدة الأصلية لمعنى العالم. حينما يتعلق الأمر بالقلق كإمكان اصيل للوعي علينا ان نضع زمنية الوضع نفسه ازاء زمنية الكائنات القابلة للتلقف داخل العالم.
معنى الكون لا يمكن ان يفهم إلا في أفق الزمنية ومعنى الاثنين ووحدتهما الماهوية لا يمكن ان يفهم إلا من خلال تلقفهما كحضور.
بالنسبة الى هيدغر يبدو الوقت بلا نهاية في ذهن كل انسان لأنه النهاية نفسها بالمعنى الأكثر راديكالية للكلمة. في أفق الماهية الحضورية يأتي نمط المستقبل سابقاً وأولاً على نمط الحاضر أو الماضي وفيه تتحقق وحدتهما الماهوية وماضي الوعي كإمكان مطلق للاستحضار إنما يبدأ كل مرة من مستقبله.
حينما عرّف اينشتاين الزمن بأنه البعد الهندسي الرابع رد عليه هيدغر بأن الزمن هو الرباعي الأبعاد.
وأخيراً لدى هيدغر فكرتنا عن الموت نستمدها من خلال تجربتنا العينية مع القلق، الموت هو الإمكان الأكثر حميمية للوعي، إمكان حلوله المطلق وانغلاقه على نفسه. والقلق في هذا المعنى هو موت أليف.
بقلم: ألان فينكيلكروت
2013-09-29
المدرسة والتعليم... في عصر العالم الرقمي السائل والآني
المدرسة والتعليم... في عصر العالم الرقمي السائل والآني
بقلم: ألان فينكيلكروت
دعوت في 2007 ال....