حالة الطقس في كفربو |
|
 |
الاستفتاء |
|
 |
عدد زوار الموقع 
|
مقالات و أراء |
 |
|
 |
 |
 |
 |
 |
أ.د كنجو كنجو |
2008-09-02 |
رؤية إدارية |
 |
رؤية إدارية
لعل ما أريد أن أطرحه في هذا المقام ليس بالشيء الجديد والمبتكر , إلا أنه يذكر بحالنا , سيما وأن تحولات شتى تشهدها الأمة في زمانها الصعب هذا والدنيا تطبق عليها قبضة محكمة تتخذ من العولمة وحقوق الإنسان والديمقراطية والإصلاح شعارات لها ,وإن كانت في الوقت نفسه تمد هيمنتها على العالم غزواً وقهراً واستعماراً .
أقول هذا ونحن نتصدى لواحدة من التحديات الكبيرة ؛ خاصة ونحن ننعت من القريب والغريب بالتخلف والفساد وترهل الإدارة , وفوضى الشعارات حتى أضحى التقدم والتطور حالة بعيدة في نظر أجيالنا الحالية والمستقبلية حين تنظر للصورة العامة للواقع وهو ينأى عن المنهجية, وسيادة القانون وقوة الدولة , وحرية الناس , ويبدو في صورة التحول إلى حالة رعوية قبلية تختفي فيها الإدارة الجديدة التي نحلم بها جميعاً . ونتحدث عنها في مؤتمراتنا وجلساتنا , هذه الإدارة التي تستطيع أن تنقل الأمة إلى حالة أفضل تمهد للتكيف مع الظروف من حولنا وللاستجابة للتغيرات المتسارعة في زمن ثورة المعرفة وتكنولوجيا المعلومات , سيما وأننا لا نملك حتى الآن أنموذجاً متميزاً للإدارة العربية على غرار( اليابان أو الأمريكان أو الألمان ... ) خاصة وأننا قد تشظينا دولاً وقبائل وطوائف لكل منها واقعه وتجربته وإدارته وعسكره واستبداده, وإن كان كل منا يسمي ذلك رؤيته الخاصة , ويراها نهاية العالم في نظريات الإدارة الحديثة .
لقد عرفنا إدارات بيروقراطية وأخرى تكنوقراطية كانت محكومة بالسياسات العامة لهذه الدولة أو تلك , ورأينا حالات جديدة متأثرة بالانفتاح والخصخصة وثالثة تتمسك بالأساليب القديمة التي نسميها أحياناً عثمانية , أو من عهد الفراعنة وزمن بابل , وكل يبحث في التراث عن جذر يستند إليه , بينما الناس ينتظرون من الإدارات كلها وضوح التشريعات , وسهولة التعامل ونزاهة الموقف والضمير , وتوفير الوقت والتميز .
قد لا أضيف إلى إخفاقات العرب إذا قلت أنهم أخفقوا في الإدارة أيضاً فليس هذا القصد , وإنما أتسأل عن قدرات الإدارة العربية وإنجازاتها ؛ حيث نشعر بالعطش ونشعر بالجوع , وأتسأل عن حالنا والأمية , وعن حالنا وإدارة الموارد الذاتية , وعن حالنا والتعليم , وعن حالنا والصدق والأمانة , وعن هذا الخراب الذي مس العمران والنفوس , وإن قال غيرنا ألا ترى ما على الرمل وفي سفوح الجبال من بنيان يناطح السحاب ؟
كما أريد أن أسأل عن هذه البطالة التي تفاقمت , وعن الرشوة والمحسوبية , وعن الطرقات والخدمات , وعن التلوث بكافة أشكاله , بل وعن المظهر العام الأهم الذي يشتد الحديث عنه وهو الفساد , في الوقت الذي لا نكف فيه عن الحوار حول التنمية الشاملة والعمل المشترك , والجودة والجدارة والتميز والتمكين والحوكمة ,وأخلاقيات الإدارة واستراتجيات التغيير ...
إنها حالة تبعث على الأسى وتستذكر فينا حكاية الدكتور حسين مؤنس عن الإدارة في قصة قصيرة عنوانها (إدارة عموم الزير) :
تقول القصة إن حاكماً عادلاً كان عائداً من جولة في بلاده في يوم ٍ قائظٍ , ومعه وزيره وبعض حاشيته , وبينما هم يستريحون في ظلال صفصافةٍ وارفةٍ استرع نظره سيل متصل من الناس يذهبون إلى ضفة النهر , يردون الماء ثم يصدرون . ولاحظ أنهم يعانون في ذلك مشقةً كبيرةً , فأمر بوضع زير ماء كبير بحمالة وغطاء وبضعة أكواز تحت شجرة كبيرة , ودفع عشر دنانير لأحد رجاله لشراء الزير على أن يتعاون مع آخر في ملء الزير مرة بعد مرة كي يشرب منه الناس .
ومضى الحاكم في طريقه , ومرت الأيام والشهور والأعوام , وذات أصيل رأى الحاكم في حديقة سكنه زيراً صغيراً تحت شجرة , فتذكر أمر الزير الأول فسأل وزيره , فأخبره هذا أن الفكرة قد طورت وعدلت وصارت شيئاً مهولاً يساير متطلبات الزمن , فقد بدأ الأمر عادياً إلى أن انكسر الزير ذات مرة نتيجة تزاحم الناس على الشرب منه , فأمر الوزير بإقامة بناء صغير يحمي هذا المرفق الشعبي .
ثم تطلب الأمر بناء غرفتين يستريح فيهما العاملان , وتزويدهما بأثاث بسيط ... لأن هناك بعض المباني والأثاث والعهدة ... واحتاج ذلك إلى رئيس قلم , وكاتبين : واحد للشؤون المالية , والثاني للعهدة ... وزودا بخزانة للنقود , وسلفه مالية , فقد ينكسر الزير أو يتلف الغطاء و أو يضيع الكوز. وهذا كله – كما يرى الوزير – ضروري للخروج من نطاق الأمم النامية إلى عالم الأمم التي تم نموها فعلاً !
ولما ازداد إقبال الناس على الشرب , وصار الزير ينكسر كثيراً حولت ( المأمورية ) إلى ( إدارة ) لها أربع إدارات فرعية : إدارة الفخار ( مختصة بشؤون الزير ) , إدارة الحديد ( مختصة بالحمالة ) , وإدارة الخشب ( مختصة بالغطاء ) , وإدارة الصفيح ( مختصة بالكوز) ... وهناك نية لإنشاء إدارة للماء ... ولما ضاق مبنى الزير , وسع بزيادة طابقين كلفا حوالي مائة ألف دينار , بالإضافة إلى أربعين ألف دينار لإدارة عموم الزير .
ويمضي الدكتور مؤنس في وصفه الدقيق الساخر لتطور المشروع , فقد أضيفت آلات ( هيدرو دينامو الكترونية ) لرفع الماء وتنقيته ودفعه إلى الزير في أنابيب خاصة , وأوجبت حركة العمارة شراء سيارة خاصة للمدير العام , واثنتين للتنقل السريع , وواحدة لنقل الماء حين تتعطل آلات الضخ , وصار للإدارة اتصالات مع دواوين الدولة , ودعي مدير الإدارة إلى مؤتمرات عالمية لشرح هذه التجربة الرائدة. وتطور الأمر إلى استعمال أحدث أساليب الإحصاء ؛ فاستحدثت استمارات أربع
( استمارة بيضاء يملؤها الذين يمرون بالزير مصادفة ويشربون مرة واحدة ولا يعودون , واستمارة حمراء للذين يشربون كل يوم مرة واحدة بانتظام , واستمارة صفراء لمن يعتمدون على الزير في شربهم طوال النهار , وتحمل هذه البطاقات صورهم. أما الاستمارة الرابعة فهي زرقاء فتحرر وترسل إلى الحاسب الالكتروني )
بعد هذا الوصف الذي قدمه الوزير لتطور الفكرة والمشروع , قرر الحاكم معاينة هذه الإدارة بنفسه , وعندما وصل إلى مكان المشروع وجد مبنى شاهقاً ضخماً , وحركة دائبة , وحين استدعى المدير العام لم يجده , فهو في مؤتمر في بودابست , وفي إدارة الخشب وجد غرفة مدير إدارة الخشب , وغرفة السكرتير الخاص بالمدير, وسكرتارية الإدارة , والمكتب الفني , وخبير الأخشاب ... ولاحظ كثرة المكاتب , والموظفين , والفراشين , والأوراق , والمراسلات بين الإدارات الكثيرة .
ثم طرح سؤاله المفاجئ : أين الزير ؟! فقيل له إنه في قاعته الخاصة في الدور الأرضي , وعندما وصل إلى هناك دخل إلى قاعة واسعة متربة على بابها ( موظف ينطق مظهره بالتعاسة , يجلس على منضدة عرجاء ) وأمامه أربع مجموعات من الاستمارات , وسجل ضخم , ولا ناس هناك ..... أعاد الحاكم السؤال أين الزير ؟
فقالوا له : أرسل إلى الورش من أربعة أو خمسة أشهر بقرار من لجنة الخبراء .
( إذن ... هذا كله ... و لا زير ) ! ردد الحاكم عبارته هذه ؛ فإذا بالخادم صابر - الذي طلب إليه أول مرة شراء الزير – يتقدم منه مسكيناً هزيلاً ويعلن : ( الزير ليس هنا منذ سنتين , و إنني لا أتقاضى راتباً منذ سنتين ونصف يا سيدنا ... إنني أموت جوعاً ) . فكان جواب المسؤولين عن أسباب وضع صابر هذا هو أن إشكالات إدارية مالية , ولوائح وقواعد تتعلق بحالته ما تزال تدرس بين الدوائر الحكومية , وتحول دون صرف راتبه , كما يحول دون ذلك أن صابراً لا يحمل مؤهلات تساعد في تحديد الأساس الذي يصرف له الراتب بناء عليه .
طلب الحاكم إلى صابر أن يبدأ من جديد , أن يشتري زيراً ويضعه تحت الشجرة التي وضع الزير الأول تحتها , وحين تلفت لم يجدها , وأخبروه أنها قطعت لأغراض إقامة البناء , وحين حاول زميل صابر منعهم ضربوه وفصلوه فمات غماً .
هذه هي قصة الزير والإدارة العربية . والسؤال الذي قد يتبادر للذهن كم زيراً مماثلاً في بلادنا في الوقت الحالي ؟ إنه لأمر يبعث على القلق سيما وأن أحداث هذه القصة لاتزال ماثلة أمامنا حتى اليوم , وليس من إشارة على انتفاء آثارها في المدى المنظور .
إن الإدارة وعي وإرادة و وقرار , ولابد أن تخضع في المجتمع الديمقراطي للتشريع والتخطيط , والمساءلة , وقد ولى زمن الإداري المتجبر الذي كان يدعي جواباً لكل سؤال , وحلاً لكل معضلة . كما ولى زمن الإداري الفهلوي الخارج من دروب فاسدة , والذي يخدع رئيسه ويخدع الناس , وجاء الزمن الذي يحتاج منا إلى الانتقال إلى عالم الإدارة التي لا تنفصل عن السياسة , والاقتصاد والثقافة , ومعطيات التقدم المعرفية , ووسائله التكنولوجية .
من هنا ننأى بإداراتنا أن تظل متهمة بالفساد والترهل والمحسوبية , وعدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب , أو أن يستبد بها متزمتون متجهمون كلنا نعرفهم . ولا نريد أن يصل إلينا خبراء الإصلاح الذين امتطوا بغال الغزاة ودباباتهم التي تعوي في الفضاء العربي مثل كلاب مسعورة . فيا أهل الإصلاح أصلحوا أحوال الإدارة رعاكم الله .
أ.د. كنجو كنجو
جامعة حلب – كلية الاقتصاد |
|
 |
 |
 |
 |
 |
 |
 |
|
|