العقل هو سيّد الإنسان في الحكمة القديمة. إنه الأداة التي يستطلع بها الإنسان ما حوله، ويحلّله ويستخدمه. بواسطة العقل، يواجه الإنسان الطبيعة ويدبّر شؤون حياته فيها، بعد أن يعرفها ويحلّل أسرارها ويكتشف كنوزها ويحاول السيطرة عليها.
العقل هو الذي يصل بين الإنسان وقريبه الإنسان والخليقة كلّها. وهذه الصلة هي علاقةٌ بديهيّةٌ مفروضة. بالعقل يؤمِّن الإنسان وجوده. لا بل بالعقل يسعى إلى 'تحسين الوجود' أيضاً. لكنّ الإنسان مدعوٌّ أيضاً، بهذا العقل عينه، ليتّصل بالخالق وليس بالخليقة فقط! دون هذه العلاقة يفقد الإنسان هويته وفرادته، ويصير العقل مجرّد آلة وصلٍ بين البشرة في حاجاتها والخليقة في مادتها.
'العقل في القلب' عبارةٌ روحية من تقليدنا النسكي، تشير إلى دور العقل في ما بعدَ تأمين أو تحسين المعيشة. هناك تأمين الوجود، وبعده تحسينه، وهناك ما هو أبعد منه أيضاً وهو معنى الوجود وغايته. حُسن الوجود لا يعني لنا الراحة أو الغنى أو الصحة فقط. 'الفيلوكاليا' أدبٌ نسكي يعني حُبَّ الجمال. والجمال للإنسان ليس فقط ما هو جميلٌ
أو مجمَّل في الخليقة. لأنّ الجمال المطلق بالنسبة للإنسان هو عند اللامخلوق، عند صورته التي يحنّ إليها. الجمال المخلوق هو لصناعة الإنسان ومعيشته، أما الجمال غير المخلوق فهو لأشواقه ورجائه.
عندما يتحد العقل بالقلب البشري عندها يطلّ على اللامخلوق، على الله. عندها يغدو العقل ليس مجرّد أداة وصلٍ بين اللحم والدنيا، بل 'وسيط' بين المخلوق واللامخلوق، بين البشر والله. ليس العقل طاقةً لتفكيك واستهلاك طاقة المادة، العقل هو الحدّ المشترك بين الإنسان والله الذي عنده وبه يتم لقاؤهما. محنة العقل إذاً هي في خيارنا، إما بأن نجعله يجول في الدنيا ليسيطر عليها، أو نُسكنه في القلب ليسكن الله معه فيه، ويغدو العقل أداة الوصل بين القلب البشري المخلوق وبين الله غير المخلوق.
'العقل في القلب' حالةٌ تعطي الإنسانَ كامل صفاته وتحيي له حقيقة هويته. العقل في القلب يجعل الإنسان كائناً متصلاً بالله في العالم، أي كائناً مصلّياً.
قد يفصل البعض بين العقل والقلب، بين العمل والصلاة، بين الحياة، المعيشة، والحياة الرّوحية، بين الأرض والسماء، بين سكنى الإنسان وسكنى الله، والواقع أنَّ لا فَصْل بين كلّ هذه الأطراف. يعمل الإنسان مصلّياً، ويحيا الله مع الإنسان هنا على الأرض.
محنة العقل هي أن نسجنه في الأُطر المخلوقة ونحرمه من التأمل في اللامخلوق. محنة العقل أن نسخّره لجمالٍ مخلوق ونعدمه رؤية الجمال غير المخلوق. محنة العقل أن نجعله أداةً للمادة وهو أساساً وُجِد من أجل انطلاق الرّوح.
ما هي مهمة العقل؟ أهي المصلحة أم المحبّة؟ ما الذي نركض ونسعى وراءَه؟ وما الذي نشغل ذهننا به؟ مهمة العقل، لا شك، هي تحسين الحياة، والمحبّة أحسن بكثيرٍ من المصلحة وأكثر إنسانيةً.
بأيِّ عملٍ نكلّف عقلنا؟ ما هي مادة دراسته التي نقدّمها له؟ ملأنا جعبته قمحاً أعطانا طحيناً لمأكلٍ حقّ، ملأناها زؤاناً أعطانا ضجيجاً! محنة العقل هي خيارنا في تحديد مادة عمله.
'ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكلّ كلمةٍ تخرج من فم الله'. لنشغل إذاً ذهننا بما هو حقيقي، بما هو سامٍ إلى جانب ما هو حاجةٌ أو ضرورة. لنجعل عقلنا مسؤولاً عن كامل إنساننا في عطشه الماديّ والرّوحي ولا نتركه يهتمّ بالأدنى ويهمل الأسمى، فيصون ما هو حيوانيّ ويقتل ما هو إنسانيٌّ وروحيّ.
محنة العقل أن يقزَّم الإنسان إلى مجرّد قردٍ ذكيّ أو كائنٍ مُرَفّهٍ دون بعده الإنساني. محنة العقل أن يعطي الإنسانَ كلَّ شيءٍ ويحرمه المحبّة، فيمنحه الكثير ويسرق منه ذاته وحياته. هذه هي محنة العقل، أمّا موهبته الفريدة فهي قدرته على ملاقاة الله والحوار معه، العقل فقط دون سواه يستطيع أن يجعل الإنسان يحيا حياة الله وليس مجرّد عيشة الحيوان.
'اعكف على قراءة الكلمة'، يوصي بولس الرسول. إنّ الكلمة الإلهية للعقل هي أهمّ بكثيرٍ من هموم الدنيا. لذلك يجب أن تكون ساعاتُ الصلاة والمطالعة اليومية كافية.
'لنرفعْ قلوبنا إلى فوق'، يعني لنشغل عقلنا أيضاً بما هو فوق. لنرفع عقولنا إلى فوق يعني أن ننقل الله من فوق إلى القلب.
'أحيا، لست أنا بعد بل المسيح يحيا فيّ' هذا هو دور العقل الحقيقي.
العقل صانع الحضارات، والتحضّر ليس مجرّد تحسين آلية الأعمال بل هو بالأساس تطعيم العلاقات الإنسانية بالمحبّة، التي بدونها لا تقوم حضارة، إنما همجية الاستهلاك دون أخلاق.
محنة العقل يمكنها أن تصير موهبتَه. محنته أن ينتهي في حدود الدنيا المخلوقة، وموهبته أن يجوز في العالم غير المخلوق. محنته أن يعمل لجمال مخلوقٍ ماديّ، وموهبته أن يتنعّم بالجمال غير المخلوق.
بين محنة العقل وموهبته تلعب مادتُه الدورَ الأساسي، أي المادة التي نشغله بها. لنعكف على مطالعة الكلمة فيتحد العقل بالقلب، والأرض بالسماء، والدنيا بالدِّين، والجسد بالرّوح، والله بالإنسان، وتتحقق وحدة الكيان الإنساني مع ذاته ومع الله ومع عالمه، ويصير السبت للإنسان وليس الإنسان للسبت، آمين.
بقلم: ألان فينكيلكروت
2013-09-29
المدرسة والتعليم... في عصر العالم الرقمي السائل والآني
المدرسة والتعليم... في عصر العالم الرقمي السائل والآني
بقلم: ألان فينكيلكروت
دعوت في 2007 ال....