ميزة هذا الزمان قلّة الصبر. الناس يريدون كل شيء أن يتحقّق لهم بسرعة. السرعة مرض العصر، أو، بالأحرى، مرض النفس بامتياز في هذا العصر. لا الانتظار سهل ولا مواجهة الصعاب. بإزاء أقل الأزمات، إن طالت، تتعب النفوس وتيأس وتلجأ إلى المسكّنات أو التدخين أو الكحول أو المخدّرات الخفيفة أو الثقيلة أو ما يعادلها. وإلى السرعة سيرة الرخاء تُعقِّد الأمور. النفس تَضْعُف. نفوس الناس، بعامة، في الماضي، كانت أقوى. شظف العيش حتّم على الإنسان الصبر والمواجهة والانتظار. فقط النفوس القويّة كانت تعيش وتستمر. النفوس الضعيفة، أو التي لم تُرِدْ أن تتكيّف مع التحدّيات كانت تموت. النفوس الطحلبية اليوم غلاّبة. قديماً كانت رجولة النفس، سواء عند الذكور أو الإناث، تبدأ باكراً. الولد الذي عمره عشر سنوات، كان يُعامَل، في الماضي، كرجل. اليوم، الأولاد لا يكبرون إلاّ في سن متأخّرة. هذا إذا كبروا. قدرةُ ولدٍ على الاحتمال في الماضي قلما توازيها قدرة رجل في الثلاثين أو الأربعين اليوم. شبّان اليوم قلما يتمكّنون من ضبط أنفسهم في أبسط الأمور. نفوسهم رخوة. صعب عليهم أن يأخذوا قراراً ويثبتوا في السير فيه. بسهولة يسقطون. يغيِّرون رأيهم بيسر. يقولون لك لا يقدرون. الصَّغار سيّد الموقف. من هنا أنّ الحياة العصرية، حياة الرفاه، باتت تخلق أشباه رجال لا رجالاً في مستوى الصلابة الداخلية. التعب في تحصيل أي شيء أوفق لطبيعة الإنسان. الراحة تقتل. 'بعرق جبينك تأكل خبزك'. غير صحيح أنّ الراحة تأتي بالسعادة. راحة الجسد تُتعب النفس. تولّد السأم. تطلق العنان للأهواء ولكل فكر رديء. تُنجب البطر والرذيلة. طبعاً شيء من الراحة، باعتدال، مفيد ومعزّ ومجدّد، لكنّ القاعدة هي التعب. الجسد الذي لا يتعب يَتعب فكرُ صاحبه وتَتعب نفسُه. لذا مَن لا يأكل من عرق جبينه يأكله القلق. هذا واقع.
الصبر علامة الرجولة بامتياز. أن تؤجّل تلبية حاجات نفسك لغرضٍ سامٍ. أن تعرف كيف تنتظر ساعة الفرج. أن تصمد. أن تثبت. أن تواجه. أن تبتعد عن المواربة والطرق الملتوية اتّقاء الأزمات. أن ترفض الاستسلام للحزن واليأس. في التربية اليوم، سواء في البيت أو في المدرسة نَقْصٌ مخيف على هذا الصعيد. لا أعرف كيف انزلقنا إلى هذا الدَرَك من الفكر فصرنا نحسب القيمة أولاً للتنشئة الدماغية وصار التعبير عن المحبّة بين الناس توفير ما أمكن من الراحة والرفاه لهم. النتيجة بيِّنة! في هذا الوطن الصغير، مثلاً، تسعة عشر في المائة من الذين نعرفهم – حتى لا نتكلّم على الذين لا نعرفهم – مصابون بانهيارات عصبية. هذا مخيف! ثمّة مناخ غير إنساني يعيش فيه الناس. كثرة الاعتماد على الآلة تسهيلاً لأمور الحياة والإدمان على التلفزيون يذهب بالكثير من إنسانية الإنسان. ثمّ الفردية التي صرنا إليها شوّهتنا. واللاحسّ واللامبالاة في التفاعل بين الناس جعل الإنسان يعيش كفي صحراء. الجزر البشرية تشتدّ عزلتها الواحدة عن الأخرى. وسائل الاتصال، على وفرتها وسهولتها، تكرّس استغناء الناس عن الناس. المحبّة، مثلاً، صارت مفردة غريبة عن حياة البشر لأنّ روح الشركة بينهم ضعفت. عوض المحبّة صرنا نكتفي ببعض المشاعر والأحاسيس والتغنّي. لا قوّة في النفوس لتتعاطى المحبّة كبذل. لذا المحبّة تُفرَغ من مضمون التوحّد والشراكة. طبيعة الحياة، اليوم، لم تعد تسمح للمحبّة أن تتجسّد في حياة الناس. المحبّة كأنّها، بالأكثر، أطلال غابرة. بردتْ!
بإزاء ضعف النفوس يتحوّل الإنسان إلى كتلة ردّات فعل. الصبر قلما عاد وارداً ولا الحبّ ولا حتى الإيمان . الناس يتكلّمون على هذا وذاك، على الصبر والحبّ والإيمان، ولكنْ، عملياً، لا قوّة في النفوس للسير في أي منها. النفوس تَفْسُد. لذا ليس غريباً أن تنمو في زمن الفردية والرفاه والعقلنة النزعة إلى تحويل الانسان الى الة. لقد باتت النظرة إلى الصلاح كأنّه من خارج عالمنا. كأنّه ليس منا. . العجيبة الروحية قلما عادت واردة. العجيبة الروحية بمعنى أنّ الإنسان قابل بالتعاون مع الله وبنعمة الله أن يصير صالحاأن يتجدّد.
بقلم: ألان فينكيلكروت
2013-09-29
المدرسة والتعليم... في عصر العالم الرقمي السائل والآني
المدرسة والتعليم... في عصر العالم الرقمي السائل والآني
بقلم: ألان فينكيلكروت
دعوت في 2007 ال....