صدفة التقت لميس بذلك الشاب أنور الذي رأته للمرة الأولى برفقة أحد أصدقائه الذي جاء لزيارتها كونها من نفس قرية ذلك الصديق وبعد أن أمضوا جميعاً مساء ذلك اليوم بين مرح وضحك وجد وأحاديث من هنا وهناك عن الطلبة في الجامعات استودع الشابان مجموعة الصبايا التي كلما ازداد عدد أشواط مشاويرها في المدينة الجامعية ازداد عددهن أو نقص.
وبطريقة شيطانية تحسد عليها استطاعت لميس أن توصل خبراً لأنور من أنها تريد أن تراه لوحده في ساعة محددة من قبل ظهر ذلك اليوم الدمشقي المشمس.
جاءها أنور في الساعة المحددة متعثراً في مشيته لا يعلم سبب اللقاء وماهيته يتلفت يميناً وشمالاً خشية أن يراه أحد من معارفه فينفضح أمر هو نفسه لا يعلم أي شيء عنه.
رن جرس الغرفة عليها إذ أن لميس أيضاً تقطن في المدينة الجامعية في دمشق وما هي إلا لحظات حتى أطلت لميس بشوشة الوجه أما أنور فكان مرتبكاً جداً وكلما اقتربت لميس كلما ازداد انور ارتباكاً وهو يحاول أن يقنع نفسه أنه شاب وضع قدماً في درب الرجولة بعد تخرجه من الجامعة.
وصلت لميس إليه وألقت تحية الصباح وسلمت عليه ودعته أولاً لتناول القهوة التي ستحضرها إحدى زميلاتها التي تقطن معها في نفس الغرفة فأومأ برأسه موافقاً وحتى هذه اللحظة كان أنور لايعلم لماذا هو هنا أو لما دعته وماذا سيجيب إن سألته أي سؤال فهو لم يلتقيها إلا مرة واحدة فما عسى أن يكون ماتفكر به لميس وأي موضوع سيدور عنه الحديث بينهما بعد لقاء يتيم من قبل.
شربا القهوة مع إحدى الزميلات التي جمعت الفناجين واستودعتهما وصعدت غرفتها لكن لميس أخبرتها أنها ستخرج لمشوار مع أنور ولا تعلم متى ستعود وهنا احمرت وجنتا أنور وبدأ العرق يتصبب بغزارة وهنا أمسك بمنديل من جيبه وتظاهر بانه يمسح بعض الغبار من عينيه لكنه بالحقيقة كان يمسح عرقه ولا يريد للميس أن ترى أنه بدأ يتعرق ومشيا سوية باتجاه الباب الخارجي للمدينة الجامعية فسأل أنور: بربك أين نحن ذاهبون هلا أخبرتني؟ فردت لميس بهدوء تحسد عليه وابتسامة تحمل تساؤلها لأنور : هل أنت خائف وقهقهت ضاحكة؟ رد أنور: ومما أخاف فأنت لم تختطفينني بعد وأنت وحيدة لا يوجد معك مناصرون لكن ذلك لم يمنع أنور من متابعة ارتباكه.
قالت لميس: سنتمشى معاً باتجاه حديقة تشرين إنها قريبة جداً من هنا أريد أن أتعرف عليك أكثر فأنت من محافظة جديدة علي ولا أعلم عن أهلها شيئاً كيف يعيشون؟ كيف يفكرون؟ كيف هي الحياة والأعياد والمناسبات لديكم؟ كيف يفكر شبابكم في ذلك البلد وهنا انفكت أسارير أنور وأحس ان شخصاً جاء ليرفع ثقلاً كبيراُ كان معلقاً برقبته وفوق صدره وأحس بنفسه مرتاحاً ومستعداً للمسير ليس إلى حديقة تشرين بل إلى النبك إن أرادت لميس طالما أن هذا هو الموضوع فقط.
وصلا الحديقة يشقان طريقهما مختالين بين الزهور والأشجار التي ترمي بظلالها على المقاعد الخشبية المتناثرة هنا وهناك في الحديقة والتي تثاءب الغبار فوقها مستلقياً غافياً.
بدأت لميس كنوع من المبادرة بمسح الغبار من على أحد المقاعد المختبئة تحت شجرة وارفة الظلال بعد أن اتفقا على الجلوس تحتها حيث أن الشمس بدأت ترسل الأشعة ذات الحرارة المرتفعة شيئاً فشيئاً لكن أنور أيضاً ومن باب اللطف (الإيتيكيت) تابع تنظيف المقعد الخشبي وجلسا متباعدين قليلاً وبدأت لميس الحديث عن الجامعة ثم نظام المرور في الشارع ثم مايعرض على شاشات التلفزة آنذاك ثم بادرته بالسؤال عن نفسه وعن أهله وعن طموحاته وعن .... وعن ......
وأخيراً فاجأته بالسؤال عن نظرته للبنات في بلدته وما هو تفكيره تجاه الفتاة بشكل عام وهل هناك أي فتاة في حياته وهل يفكر بالارتباط حالياً في حال السلب وحول علاقته كشاب بالفتاة أم هل ارتبط بفتاة من قبل وما إلى هنالك من هذه الأسئلة التي دارت بمجملها حول علاقة الشاب بالفتاة.
احمرت وجنتا أنور وأجابها بعد ان تمالك نفسه شارحاً عن نفسه كيف يقدر الفتاة وكيف سيرتبط بها يوماً ما ........ ثم أخبرها انه لاينوي حالياً الارتباط بفتاة لأن ظروفه المالية لا تسمح له بذلك فبعد أن تخرج تزوج أحد إخوته ورتب ديوناً على العائلة التي فقدت ربانيها بحادث سير منذ سنوات وكيف أنه سيعيل إخوته الثلاثة من بعده إلى أن يتخرجوا من الجامعة وإلى ماهنالك من ظروف قاسية رمت بظلالها على حياته كشاب وهناك فكرة للهجرة خارج البلد بقصد العمل وهنا قاطعته: كيف يمكن لشاب مثلك أن يتخرج ولا يخدم البلد الذي رعاه ورباه ويجب عليه ان يرد له الدين والجميل و........................
وأردفت لميس لأنور ببضع كلمات لم يكن يتوقعها أبداً بأنها صراحة أعجبت به كشاب وبأنه يمثل لفتاة مثلها فارس الأحلام و............... لكن انور أصر على عدم رغبته الارتباط بفتاة الآن بسبب الظروف التي شرحها سابقاً وأضاف بانه لا يفكر بفتاة من خارج بلدته توفيراً للتكاليف المالية التي كان يتوقعها مستقبلاً إذا ماتزوج من خارج البلدة.
وأمام إصراره على الرفض ازدادت لميس إصراراً على الاعجاب والحب الذي ومض في قلبها منذ اللحظة الأولى التي رأت فيها أنور وكانت مندهشة من رفض أنور فهي التي اعترفت له بحبها وإعجابها وكانت بنفس الوقت تتساءل في قرارة نفسها: هل انور صادق في ما يقوله وفي تفكيره أم هذه طريقة للهروب منها كفتاة؟
وأودعته أخيراً كلمات لم يستطع أنور أن ينساها عندما قالت: أنور أنت حر في مشاعرك وانا حرة بمشاعري، أنا لا أطلب منك أن تحبني لكن لا تطلب مني أن لا أحبك فهذه أفكاري ومشاعري وأنا حرة بها.
واستمر الجدال على هذا المنوال حوالي نصف ساعة كانت بمثابة حلم جميل للميس لم ترد أن تفيق منه وكان بنفس الوقت كابوساً مريراً لأنور فلا هو يريد أن يعلق لميس به أكثر لئلا يفجعها ولا هو قادر أن يقنعها بعدم توهمها من ناحيته ولا هو قادر على إنهاء اللقاء طالما لميس لم ترد ذلك من باب اللباقة ولم ينته اللقاء إلا عندما جاء بستاني تلك الحديقة مستأذنا ً بتنظيف الممرات بين الأشجار وتقليم الشجيرات الحراجية التي تحيط بالمقعد الخشبي وكان ذلك الطلب سبباً كافياً لإنهاء اللقاء فاتفقا على مغادرة الحديقة وكان أنور مندهشاً من صراحة لميس غير المعهودة وهي ليست بمصدقة من وجود شاب يرفض اعتراف فتاة بحبها له منذ اللقاء الأول رغم أن المتعارف عليه ان يكون الطرح لدينا بشكل معكوس.
فغادرا وكليهما غير مقتنع بوجهة نظر الآخر وتابعا مسيرهما باتجاه أحد مطاعم الوجبات السريعة لأن أنور أصر أن لا تعود لميس إلى غرفتها دون غذاء.
وتتالت اللقاءات بينهما بعد ذلك حوالي الشهرين وكل منهما يتوسل للآخر أن يتفهم وجهة نظره لكن دون جدوى إلى أن سافر أنور من تلك المدينة بعد أن أنهى مهمته التي كان بسببها متواجداً في دمشق وانقطعت أخبار أنور عن لميس مدة طويلة.
وبعد حوالي سنوات عشر تشاء الصدف أن يجتمعا سوية في قرية لميس لأن أنور كان أحد المدعوين إلى حفلة عرس أحد إخوة رفيقه هناك وكان برفقته زوجته وطفله الأول وكانت لميس برفقة زوجها التي ارتبطت به منذ أربع سنوات ورزقا بولد وبنت وكان أنور يتابع أخبار لميس من بعيد لبعيد وأخيراً علم بزواج لميس عن طريق رفيقه صاحب الدعوة.
وكان السؤال الأول من لميس لأنور بعد أن تعارفا جميعاً: هل سافرت أنور خارج البلد لقد كنت مزمعاً على السفر منذ أن تعرفت إليك في المدينة الجامعية؟
رد أنور: نعم لقد غبت ثماني سنوات عن البلد ساعدت فيها إخوتي حتى أتموا دراستهم وتخرجوا من الجامعة وانتقلنا لبيت جديد مؤلف من ثلاث طوابق أسكنه وأخوي الآخرين بعد ان تزوجت أختي وعدت لأتزوج وأخدم البلد التي ربتني ورعتني ولها جميل عندي ماحييت ولم يملك الجرأة ليقول لها بأنه كان يتابع اخبارها وأنه علم بزواجها خشية عدم إيذاء مشاعرها من جهة ومشاعر زوجها الذي يلتقيه للمرة الأولى.
ارتاحت أسارير لميس كثيراً لسماعها كلام أنور لأنها اقتنعت أن أنور منذ عشر سنوات وفي تلك اللقاءات المتكررة لم يكن يمثل عليها دور الشاب المثالي أو لم يكن يتهرب منها كفتاة ربما فكرت للحظة يومها أنها لاترضي طموحه كشاب وأنه مهما قست الأيام والظروف والشعارات التي يختبىء شباب اليوم خلفها فلا يزال هناك شبان صادقون بكل كلماتهم.
2013-09-29
الوجود المجروح والخريف
الوجود المجروح والخريف
مرة أخرى يتآكل الخريف مع انسياب نغمات منجيرته
ويهدأ النهر ويتلكأ في مجراه القديم
وتتصاعد زفرا....